فاروق عطية
بعد 7 أعوام على انقلاب 23 يوليو 1952م وتحديدا في عام 1960م أممت الصحف وانتزعت ملكيتها من أصحابها ومؤسسيها لتصبح ملكا للإتحاد القومى. باختصار أصبحت الصحافة تابعة للزعيم المتسلطن على حرية البلاد، وأصبح الصحافيون موظفين لدى ولى النعم.، بعد أن كان حق إصدار الصحف بمجرد الإخطار. كما أصبح في يد الحكومة أيضًا قرار تعيين رؤساء التحرير، وكذلك فرض الرقابة على كل ما ينشر بالصحف. وأصبح لا يجوز لأي صحفي العمل في الصحافة إلا بترخيص من الاتحاد القومي. لم يأت قرار تأميم الصحف فجأة، فبعد نجاح الحركة تم إغلاق الكثير من الصحف بدعوى انتمائها لأحزاب سياسية انتهت بقيام الانقلاب، ويوضح أستاذ العلوم السياسية محمد كمال أن فكرة التأميم نابعة من الفكر الاشتراكي السائد في فترة الستينيات، وكانت متوافقة مع ظروف العصر والمرحلة التي ظهرت فيها، فقد رأى عبد الناصر أن الرقابة على الصحف ستصب في مصلحة الثورة، فلن يكون هناك تنوع فكري أو آراء معارضة.
كان الشعب المصري قبل تأميم الصحافة في عهد عبد الناصر، يمتلك حرية مهولة في إصدار الصحف، حيث كان مسموحًا بترخيصات صحفية للأفراد، وكان لكل إنسان حرية أن يخرج للدنيا برأيه في صحيفة أو مجلة يحاسب فيها الحكومات المتعاقبة وهذا ما عبر عنه الأستاذ مصطفي أمين بطريقته الساخرة حين سألوه عن الديمقراطية، فقال: "الديمقراطية هي أن يستطيع أي فرد أن يُصدر جريدة بمفرده". لذلك كان أصحاب تلك الصحف يتمتعون بخاصية النضال ولا يهتمون بمصادرة الحكومات لصحفهم ولا باعتقالهم الذي كان لا يطول، ويعودون لاصدار نفس الصحف بنفس النقد ولكن بأسماء مختلفة، من أمثلة ذلك أن يعقوب صنوع الذي أصدر مجلة "أبو نظارة"، عندما صادرتها الحكومة أصدر مجلة "أبو نظارة زرقاء"، ولما صودرت أصدر جريدة "أبو صفارة" ثم "أبو زمارة"، حتى وصلت المجلات والجرائد التي أصدرها إلى 12 عنوان. وكان كل من يكتب الكوميديا الساخرة في مصر، يجعل هدفه هو السخرية من السياسات الظالمة، والفساد المتفشي في المجتمع، والفجوة الطبقية الرهيبة، وانتشر فيها الزجل لقربه من البسطاء والفلاحين وسخريته من الإقطاعيين والبشوات وحتي من الملك نفسه بالرمز ويطريقة غير مباشرة.
شهدت الفترة الملكية ظهور عدد كبير من الصحف و المجلات في مصــر، كانت بدايتها حينما ظهرت لأول مرة " جريدة الوقائع " في عهد محمد علي باشا عام 1828م لتكون بذلك اول صحيفة عربية و اسلامية تصدر باللغة العربية، تلتها بعد ذلك صحف كثيرة تم تأسيسها في مصر كـ ( الاهرام و وادي النيل ) اللذان أسساسهما سليم و بشارة تقلا عام 1676م، و(الوطن)، و(مصر)، و(التنكيت والبكيت) التي أصدرها عبد الله النديم. أيضا في فترة ما قبل انقلاب يوليو ازدهرت صحفا اخرى كـ (اللواء) و(المقطم) و (السياسة) و(البلاغ) و(كوكب الشرق) و(الجهاد) و(المصري) وغيرها. كانت صحافة حرة يستطيع المرء أن يكتب فيها ما شاء ما عدا محظور واحد ألا وهو العيب فى الذات الملكية. وكان لكل حزب سياسى صحيفته الحزبية الناطقة بلسان حاله، يكتب فيها آراء ومعتقدات الحزب وبرنامجه السياسي، ويصب فيها جام غضبه على الأحزاب الأخرى مبينا أخطاءها وقصور برامجها الحزبية، لكن دونما قذف أو تجريح شخصى وإلا وقعت الصحيفة ورئيس تحريرها وكاتب المقال تحت طائلة القانون. كانت تهاجم الملكية، تطالب بالاستقلال عن الاحتلال، وتحاسب الملك على كل صغيرة وكبيرة، بلهجة شديدة الحزم والقسوة، ورغم ذلك لم تُفرض الرقابة علي الصحف الا في اوقات معينه عصيبة حيث فرضت الرقابة علي الصحف نهاية الحرب العالمية الثانية وحرب فلسطين 1948م وبعد حريق القاهرة.
كانت المجلات والصحف الفكاهية الساخرة هي المتنفس لهذا الشعب الذي عاش يردد أزجالها، وتنمو بداخله القوة على التحمل. ومن تلك المجلات (حمارة منيتي) و(أبو نواس) و(الكرباج) و(العفريت) و(الخلاعة) و(المسامير) و(الظرائف) و(مسامرات النديم) و(هاها) وغيرها. وتطورت الصحافة الفكاهية؛ تطوراً كبيراً في العشرينيات، ثم بلغت ذروتها في الأربعينيات، وكان ذلك من خلال مجموعة من الصحف، منها: (الكشكول) و(خيال الظل) و(الفكاهة) و(ألف صنف) و(الغول) و(الخازوق) و(أبو قردان) و(البغبغان) و(الضحّوك) و(العفريت) و(البعبع) و(اشمعنى) و(البعكوكة) و(كلمة ونص) و(أضحك). و(الصاعقة) و(المطرقة)، ولكن كان أشهرها وأقواها مجلة البعكوكة.
البعكوكة مجلّة أسبوعية فكاهية زجلية أصدرها محمود عزّت المفتي عام 1937م وكانت تسمى في البداية مجلة الراديو والبعكوكة، واكمل مسيرتها عبد الله أحمد عبد الله الشهير ب"ميكي ماوس"، كان مظهرها الفكاهة، ولكن حقيقة جوهرها للذين يستطيعون قراءة ما بين السطور أنها مجلّة سياسية من الدرجة الأولى، تستخدم النكتة والفكاهة والسخرية والزجل لتوصيل ما تريد أن تقوله بالرمز لما لا تستطيع أن تقوله مباشرة. والشعب المصرى شعب لماح محب للنكتة متفهما لما وراءها، فقد كانت النكتة وما زالت سلاح المصرى الوحيد الذي واجه ويواجه به جبروت وقسوة الحياة والسلطة عليه، من أيام الفراعنة وحتى الآن وهي خياره الأمثل للمقاومة. ولأن "البعكوكة" هي أطول هذه المجلات الساخرة عمرًا حيث بدأت عام 1934م واستمرت بقوة حتى عام 1953 ثم انقطعت بسبب تأميم الصحافة، وظهرت على فترات متباعدة في شكل نشاط فردي للأستاذ "عبد الله أحمد عبد الله" الذي أصر على أن يجعل تلك المجلة هي قضية حياته، الذي بدأ فيها محررًا صغيرًا، حتى صار رئيسًا لتحريرها، ولأن البعكوكة كانت دائمًا هي الوريث الشرعي لتراث كل المجلات الساخرة، حيث أن كل من عمل بتلك المجلات الساخرة كان يتجه نحو البعكوكة بعد توقف مجلته، فينشر بها جديده وقديمه.!
حتى الصحف العادية، كان معظمها يزخر بالمقالات الساخرة والأزجال الفكاهية والشعر الحلمنتيشي، من تلك المجلات: (اللطائف المصورة) و(سركيس) و(كل شيء) و(روزاليوسف) و(آخر ساعة) و(الاثنين) و(المصوّر) وغيرها، وقد أدى هذا الازدهار في الصحافة الفكاهية إلى ظهور كوكبة من الساخرين والظرفاء أمثال: "عبد العزيز البشري" و"المازني" و"فكري أباظة" و"حسين شفيق المصري" و"بيرم التونسي" و"محمد مصطفى حمام" و"طه حراز" و"كامل الشناوي" وغيرهم. ومن العجيب أن معظم المجلات الساخرة في مصر لم تعش أكثر من ثماني سنوات، ومنها من لم يصدر منه سوى عدد واحد (كالمسلة) لبيرم التونسي، أو عام واحد (كالصرخة)، و(الخازوق).
ظلت الصحافة كما هي مع انقلاب يوليو الا انها فقط انتقلت كجموع الشعب المصري لتأييد الحركة ورجالاتها، وترك "مجلس قيادة الثورة" في بادئ الامر الصحافة تعمل كما هي حتي أصدر المجلس قراره "بحل الاحزاب السياسية" ومعها أغلقت الصحف الحزبية بموجب القرار في عام 1953م. وبعد استتباب الأمر لحركة الضباط وتحولها لثورة، ظن الصحافيون أنهم قد تحرروا من كل المحظورات، وأن لهم الحرية فى التعبير عما يجيش بصدورهم وما تمليه عليهم ضمائرهم. انكشف المستور لهم بعد حين، حين طالبت جريدة المصرى (لسان حال حزب الوفد) بالديموقراطية والدستور الذى تجاهله الثوريون تماما (الصدام بين أسرة أبو الفتح والثورة بلغ ذروته خلال أزمة مارس 1954م، عندما انقسم مجلس القيادة بين جبهتي محمد نجيب وعبدالناصر؛ فالأول كان ينادي بإجراء انتخابات وتسليم السلطة إلى مدنيين، بينما كان للثاني رأي آخر. حينها وقفت الأسرة بجانب «نجيب» متسلحة بقوة جريدة «المصري» الضاربة وانتشارها الكاسح، وكانت من أشد المطالبين بـ«الانتخابات والديمقراطية»). صدر حكم محكة الثورة برياسة عبد اللطيف البغدادي بإدانة محمود أبوالفتح، مؤسس جريدة «المصري»، وأخيه حسين بـ«الاتصال بجهات أجنبية في محاولة لتقويض نظام الحكم»» وأصدرت حكمها بمعاقبة محمود أبو الفتح غيابيًا بالسجن 10 سنوات، وتغريمه 356 ألف جنيه، ومعاقبة شقيقه حسين بالسجن 15 سنة مع إيقاف التنفيذ، كما أصدرت المحكمة حكمها بإغلاق جريدة المصرى ومصادرة ممتلكاتها وأرصدتها، بينما رأت الأسرة وعلى رأسها محمود وشقيقه أحمد، أن «الثورة حادت عن جادة الصواب، ولم تف بالتزامها في تحقيق ما وعدت به بعودة الديمقراطية». كما أغلقت مجلة البعكوكة بحجة أنها صحيفة هزلية لا تناسب المرحلة الثورية، ولكن السبب الحقيقى لغلقها كان معرفة الثوريون بمدى تأثير النكتة على الشعب المصرى.
تعاملت الثورة مع الصحافيين الأحرار بأقسى وأبشع الأساليب القمعية، على سبيل المثال لا الحصر، وضع مصطفي أمين في المعتقل، وظل أخوه علي أمين خارج الوطن يخشى العودة حتى لا يعتقل (تشير الروايات إلى أنه حينما ساءت العلاقة بين التوأمان مصطفى وعلي أمين وبين عبد الناصر، اتهمتهم السلطة في النهاية بـ"التجسس" وتسليم معلومات إلى مندوبين أمريكيين، رغم أنهما تحركا فى الأساس بأمر من القيادة التى طلبت منهما توزيع صور كان قد التقطها الصحفي مصطفي شردي رئبس تحرير الوفد في بورسعيد تظهر بشاعة العدوان الثلاثي، على كبرى صحف العالم لفضح العدوان الثلاثى من إنجلترا وفرنسا وإسرائيل).
دخل إحسان عبد القدوس السجن الحربي مرتين، حين وقف إلى جانب الديمقراطية البرلمانية، وثار بعنف على ضرب “عبد الرزاق السنهوري” في مكتبه بمجلس الدولة، وذهب لزيارته في بيته، وكتب ثلاثة مقالات بمجلة روز اليوسف تحت عنوان “الجمعية السرية التي تحكم مصر”، فتم اعتقاله وإيداعه في زنزانة انفرادية في السجن الحربي من 29 أبريل حتى 31 يولية 1954م، وكان قد طالب بضرورة خروج جمال عبد الناصر وزملائه الضباط من الجيش، وإعادة الحياة النيابية “كضمان لحياة سياسية مستقرة”. وكان يوم دخوله للسجن الحربي نهاية لصداقته للضباط الأحرار الذين قاموا بانفلاب 23 يولية 1952م، ونهاية لتأييده لما قاموا به، وأصدرت والدته روز اليوسف أوامرها بعدم إيراد أية كلمة في مجلتها عن ثورة يولية 1952م، طالما ابنها في السجن، ورفضت الذهاب للقاء عبد الناصر حين طلبوا منها ذلك. واعتقل إحسان مرة أخرى في عام 1954م، حيث أخرجوه من بيته عنوة، وأدخل السجن الحربي بتهمة التآمر على الثورة، ثم لم يلبث أن أطلقوا سراحه بعد عدة أيام.
فرضت الرقابة على الصحف فور قيام الحركة، فتواجد ضابط في مقر كل صحيفة، يراجع كل كلمة مكتوبة قبل أن تطبع. وإحس الصحفيون أنهم موظفين لدى الدولة، وخوفهم على لقمة العيش متمثلين لما حدث للبعض من تنكيل، جعلهم رقباء على أنفسهم لا يكتبون إلا ما يرونه مدحا وتملقا لصاحب السلطان، وفر خارج البلاد من لم يستطع العوم فى هذا المستنقع. وبذلك أصبحت صحافتنا مدجنة مقصوصة الريش مهيضة الجناح، فأذا تصفحت أى صحيفة مصرية لا تجد فيها غير أخبار الزعيم الذي يعتلي عرش السلطانية ولا أخبار أهم من أخبار فخامته إذا عطس أو تنحنح، ومازالت صحافتنا المسماة بالقومية تنهج نفس المنهج حتى اليوم.
يذا يكون عبد الناصر قد أسس لما يعرف بصحافة النظام الخالص وبدي ذلك واضحا في الكذب و التدليس الذي تصدر الصحف القومية ابان حرب يونيو 1856م، حيث نرى مانشتات صحف النظام تُكتب بلا خجل "حلّقت الطائرات المصرية فوق تل أبيب" وانتظر الشعب السويعات التي أخبرت بها الصحف القومية الباقية لتحقيق النصر وهو ما لم يسبق حدوثه في مصـر قبل عهد عبد الناصر.