عادل نعمان
إلى الذين يزعمون أن الخلافة اختيار إلهى، وأن الدولة الدينية هى الحل، بها تتقدم الأمم، ويأمن الناس فيها من الخوف، ويشبع الناس فيها من الجوع والحرمان، ويستظل الناس فيها بالعدل والمساواة، أعيد على مسامعكم ما قاله الشيخ على عبدالرازق فى كتابه (الإسلام وأصول الحكم) يقول: (الواقع المحسوس الذى يؤيده العقل، ويشهد به التاريخ قديمًا وحديثًا، أن شعائر الله تعالى ومظاهر دينه الكريم لا تتوقف على ذلك النوع من الحكومة الذى يسميه الفقهاء خلافة، ولا على أولئك الذين يلقبهم الناس بالخلفاء، والواقع أيضًا أن صلاح المسلمين فى دنياهم لا يتوقف على شىء من ذلك، فليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا، ولو شئنا لقلنا أكثر من ذلك، فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام وعلى المسلمين، وينبوع شر وفساد، وحسبنا أن نكشف عن الواقع لنؤمن بأن ديننا غنى عن تلك الخلافة، ودنيانا كذلك). انتهى.
ولم تكن
الخلافة بعد النبى خلافة دينية، بل خلافة دنيوية، وزعامة سياسية، وحين أتيح لها أن تقارع زعامات الإمبراطوريات التى فرضت قوتها وسيطرتها على مساحات شاسعة من الأرض، بادرت إلى تقليدها وبسط نفوذها وسلطانها على المناطق المحايدة حتى زاحمت هذه الإمبراطوريات وكنستها من طريقها، وقد كانت الوحدة الدينية التى جمعت هؤلاء المقاتلين الأشداء ركيزتها الأساسية وساعدها القوى لدق طبول الحرب والتوسع والاستعمار، ويرفع لها الجميع رايات الاستسلام من الشرق إلى الغرب، وإن كان هذا الدين ليس من مهمته أو هدفه هذا، إلا أن استدعاءه زورًا أمر مقبول ومطلوب للوصول والسيطرة السياسية، واستمرت هذه السياسة لكل من جاء من الخلفاء، وما قتل بعضهم بعضًا إلا على النفوذ والسلطان والملك، وما فتحوا واحتلوا البلاد إلا لجمع الأغنام والأسلاب، ولم يكن الدين حاضرًا فى هذا يومًا أو بعض يوم، بل كانت تستحضره الأطراف وترفعه على أسنة الرماح، فيقتل هذا بآية، ويتلو الآخر آية أخرى حين يهم بقتل أخيه أو خصمه.
وإذا كان أهل (العقد والحل) منوط بهم اختيار الخليفة، فليس هذا دليلًا على ديمقراطية الاختيار، هم نخبة لا صلة لهم بالرعية ولا تربطهم بهم رابطة، معزولون عن الرعية فى قصور الخلفاء، موزعون فى سلم طبقى يبدأ من الحكام والوزراء والأمراء والتجار ورجال الدين وينتهى فى القاع عند الرعية والموالى، وكل الخلفاء كانوا على مصير واحد فى الموت، ولم يكن هذا إلا دليلًا على خلل فى الحكم، أو رفضًا للحاكم، أو صراعًا مستمرًا بين طبقات هذا السلم، إلا أن هذا الشرط فى الاختيار لم يتحقق إلا مرة واحدة، ومشكوك فيها، فقد تلاعبوا ودلسوا وجاءوا بأحد الخلفاء، كما يصنع رجال السياسة حين تستهويهم المصالح ويعقدون الصفقات ويتلاعبون فى النتائج حتى يبدو الاختيار حرًا أمام العامة، وليس بين هذا وذاك من خلاف، والتاريخ يؤكد أن الأصل فى اختيار الخليفة كان بالقوة والغلبة والقهر وتحت ظلال السيوف وعلى أسنة الرماح، أو شراء الذمم بالمال أو كليهما معًا، وما ركبها بنو أمية والعباسيون والفاطميون والعثمانيون إلا «بكليهما هذه»، وأسوق مثالًا على البيعة، فهذا يزيد بن المقفع فى احتفالية بيعة معاوية للخلافة وابنه يزيد لولاية العهد، وقف خطيبًا وقال: (أمير المؤمنين هذا- «وأشار إلى معاوية»- وإن مات فهذا «وأشار إلى يزيد ابنه»، فمن أبى «رفض» فهذا، وأشار إلى سيفه). هكذا كانت بيعة الخلفاء، ولم تكن
الخلافة الراشدة قبلهم بأقل أو أكثر منهم حصة وحظًا، وكلهم ذرية بعضها من بعض.
وإذا أجاز بعض المشايخ البيعة لمغتصب
الخلافة بالقهر والغلبة والسيف «تنعقد البيعة بالغلبة أو بالرضا» وحرموا على الرعية أن يناموا ليلتهم دون مباركته وبيعته حقنًا لدماء المسلمين، كمن أخذها بالرضا، فكان على الخليفة أن يطارد معارضيه وينكل بهم وكل من يخرج عن مقامه، وأن يحمى عرشه وملكه، ويحيطه بأهل الثقة والمنافقين والانتهازيين والمقربين والمشايخ وهم القوة الغالبة، كل هذا وأكثر فى سبيل الحفاظ على ملكه، ولم يكن يعنيه غير هذا، فهل يفكر أحدهم يومًا فى التنحى أو التنازل عن هذا الملك لغيره إذا رأى ضرورة لهذا؟ لا.. هو باب موصد لا يُفتح إلا على جثته وأهله وعشيرته، وربما بنى جلدته أجمعين، واجتثاث أصولهم اجتثاثًا من جذورها، كما فعلها العباسيون فى بنى أمية أولاد عمومتهم، فلا تداول للسلطة إلا بخراب البلاد والعباد، وتقطيع أصول وفروع الخصم، حتى رضعائه، مخافة أن يسلب أحدهم الحكم، حين يشب عن الطوق يومًا، وينكل بهم كما نكلوا بأهله، إلا أن مهمة التنكيل هذه كانت متداولة ولم تخطئ يومًا أو تتعثر، وكانت على مر العصور تنبت وتؤتى ثمارها من خلافة إلى أخرى، ولم يذكر التاريخ عن انتقال السلطة سلمًا أو فى سلام مرة واحدة، بل كانت على أشلاء وجماجم الخصوم والمعارضين.
ونختم المقال بما جاء فى نفس الكتاب: «لا شىء فى الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى، فى علوم الاجتماع والسياسة وغيرها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق (الخلافة) الذى ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم، ونظام حكومتهم، على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم».
نقلا عن المصرى اليوم