فاطمة ناعوت
أكتب هذا المقال فى يوم المرأة المصرية ١٦ مارس، وأهديه للسيدة الجميلة «نعيمة مسدارى»، التى أتمنى اختيارها «الأم المثالية» فى «عيد الأم» الوشيك. المصرية البسيطة التى رفضت بضعة آلاف من الجنيهات منحها لها الإعلامى «أحمد رأفت/ مذيع الشارع» بعدما فازت فى مسابقة المعلومات العامة التى يطرحها البرنامجُ على المارّة والسابلة لتنشيط المعرفة وخلق حالٍ من البهجة بين الناس. سألها سؤالًا بسيطًا، وأجابت، ففازت. وحين أعطاها المكافأة رفضتها بابتسامتها الطيبة، وقالت إن هناك مَن هو أحقُّ منها بالمال، فهى «مستورة الحمد لله»، ومعاشها ٣٠٠٠ جنيه يكفيها، والحمد لله فى بركة ربنا. وقالت إنها «تعطى» ولا «تأخذ»، وإنها تترك أرغفة الخبز لكى يأخذها مَن يحتاج إليها من الكادحين. لأن البركة تحلُّ فى العطاء لا فى الأخذ، ولهذا بارك الله فى عمرها حتى ترعى ابنها الأصمّ، فهو البركة الكبرى فى حياتها. وحاول المذيع معها بشتّى الطرق أن تأخذ جائزتها، لكنها رفضت فى إباء وتعفف وبساطة، وابتسامتُها وخفة ظلها لا تفارق وجهها. حتى قالت له فى الأخير: «إنتو جايين منين؟ إنتو ملايكة من الجنة؟».
جمالُ روحها ووجها الوضّاء بالابتسام، وقلبها المشرق بالفرح والرضا، والتعفف عن مد اليد، بل والاعتذار عن قبول اليد الممدودة، أمور كبيرة لا يقدرُ عليها إلا ذوو الأرواح الشاهقة. تحسبهم أغنياءَ من التعفّف، كما علّمنا القرآن الكريم فى سورة البقرة ٢٧٣: {للفقراءِ الذين أُحصِروا فى سبيلِ اللَّه لا يستطيعون ضَربًا فِى الْأَرضِ يَحْسَبُهم الْجاهِلُ أغنِياءَ مِن التَّعَفُّفِ تعرفُهم بسِيماهم لا يسألون النَّاسَ إِلْحَافًا وما تُنفقوا مِنْ خيرٍ فَإنَّ اللَّهَ به عليمٌ}.
ذكّرتنى «الست نعيمة مسدارى» بعفيفة أخرى من جنوب مصر اسمها «الست مبسوطة»، وكتبتُ عنها عدة مقالات لفرادتها بين البشر، وأتشرّفُ اليوم بأنها صديقة عزيزة لا ينقطع تواصلُنا. وحين تسمعُ صوتى فى الهاتف تقول لى: «أهلًا يا غالية». تعرفنى من صوتى إلى درجة أننى كنتُ أحاضرُ يومًا فى «سيدنى» الأسترالية، وكانت المحاضرة عن العطاء والرضا، وأمام الجمع الحاضر اتصلتُ بها من رقم أسترالى. وضعُ الهاتف على الإسبيكر أمام الميكروفون ليسمع الناس صوتَها، وبمجرد أن سمعت صوتى «ألوو»، قالت: «أهلًا يا غالية، بتتكلمى منين ده الرقم طويل أوى!»، هى لا تقرأ ولا تكتبُ، لكن فِطرتها غنيّة بالمعرفة والنصوع، منحها اللهُ فيضًا من عطاياه، فراحت تُعطى ولا تأخذ، فيجزل اللهُ لها العطاءَ السماوى الكريم.
كيف أُدوّنها على سِجلَِّ هاتفى؟ هكذا: (الست مبسوطة، أغنى امرأة فى مصر)، وهذا هو عنوان مقالى الأول عنها نشرتُه هنا فى زاويتى بجريدة «المصرى اليوم». اسمها «مبسوطة»؛ وما أوفقَ الاسمِ على المُسمّى! تعيش فى نجع ناءٍ من نجوع سمالوط. كان لديها خمسةُ أطفال مصابون بضمور كامل فى المخ. عند بلوغهم الثانية عشرة من أعمارهم، لا يقوون على الحركة فيرقدون. لتبدأ الأمُّ رحلة «الشيل والحطّ» لأجساد أولادها حتى يتحمّموا ويقضوا حوائجَهم ويتقلّبوا على الفراش تفاديًا لقروح الفراش. زوجها الراحل «عم سعيد» كان طريح الفراش لإصابته بالفشل الكلوى. وكانت الزوجة الجميلة تقوم على خدمته ورعايته كما تفعل مع صغارها، حتى رحل. ابنُها الأصغر ميلاد مصابٌ بنفس مرض أشقائه، لكنه يستطيع التحرك بصعوبة. فتقول عنه أمُّه بفخر: (أشكرك يا رب. صحيح لحمه متمزع من الوجعات، لكن بيقدر يروح المحلّ (الحمام)، أعتبره مش عيان).
سيدةٌ مليحةٌ أنيقةُ الملامح. نحيلةٌ سوداءُ العينين والشَّعر كأنها ملكة فرعونية منحوتة على جدارية فرعونية فى معبد الكرنك. ابتسامةُ الرضا لا تفارقُ عينيها اللتين تُشعّان ببريق مدهش. مات زوجها، وترك لها ميراثًا هائلًا من صغار مُقعدين لا يدركون ما يجرى حولهم، ولا تقوى أجسادُهم الشابّةُ على الحركة. ابتسامة الرضا التى لا تفارق وجهها المشرق وهى تقول لمن يحدّثها: (ربنا محبش حد قد ما حبنى. وعمرى ما طلبت منه حاجة وقالى لأ. هو عاوز ولادى كده. وأنا راضية بمشيئته. هو له حكمة فى حالى وحال ولادى. وعمرى ما اشتكيت لحد). هذه السيدة كان دخلها الشهرى لا يصل للمائة جنيه. ولا تمدُّ يدَها؛ بل تدفع من قروشها النحيلة لبيت الله لمساعدة مَن هم أشدُّ منها عوزًا. أولئك العفيفون يشكرون الله كل نهار على نِعم كثيرة لا يراها غيرُهم. يشكرون الله على البصر والسمع والإدراك. يشكرون الله على أنهم قادرون على الذهاب إلى الحمّام. يشكرون الله فى كل حال ودون شرط. وتلك درجة عُليا من درجات الثراء، فقرًا وإيمانًا.
«الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبُّ الوطن».
نقلا عن المصرى اليوم