الأقباط متحدون | الفلم المسيء والرد الأسوأ
ستظهر الصفحة بشكل مختلف لآنك تستخدم نسخة قديمة من متصفح أنترنت أكسبلورر، استخدم نسخة حديثة من انترنت اكسبلورر او أى متصفح أخر مثل فايرفوكس لمشاهدة الصفحة بشكل أفضل.
أخر تحديث ٠٥:٣٤ | الثلاثاء ١٨ سبتمبر ٢٠١٢ | ٧ توت ١٧٢٩ ش | العدد ٢٨٨٧ السنة السابعة
الأرشيف
شريط الأخبار

الفلم المسيء والرد الأسوأ

الثلاثاء ١٨ سبتمبر ٢٠١٢ - ٠٠: ١٢ ص +02:00 EET
حجم الخط : - +
 

بقلم: عبدالخالق حسين
 
المتوفر من اللقطات القصيرة من الفيلم المسيء للنبي محمد (ص) والإسلام والمسلمين، والذي يحمل اسم "براءة المسلمين"، كشف عن هزالة وغباء القائمين بإنتاجه وإخراجه وتمثيله، فهي لقطات مثيرة للقرف والاشمئزاز. وكذلك كشف الفيلم عن النوايا والأغراض السيئة من انتاج الفيلم، كما فضح هشاشة ردود الأفعال العنيفة من قبل الجماهير في البلاد العربية والإسلامية والتي أقل ما يقال عنها أنها أفعال انعكاسية reflex actions، وليست أفعال إرادية صادرة عن العقل والتفكير السليمين.
 
الفيلم هو من إنتاج ناس متطرفين محسوبين على الديانة المسيحية، كما تحسب منظمة القاعدة الإرهابية على الإسلام. والمعروف أن الديانة المسيحية مرت بمرحلة تبنت فيها العنف في مواجهة الخصوم بمن فيهم المفكرين من الفلاسفة الإصلاحيين، وأبشع مرحلة مرت بها المسيحية الأوربية هي مرحلة محاكم التفتيش، وبيع صكوك الغفران، والحروب الطائفية بين الكاثوليك والبروتستانت عند نشوء المذهب الأخير في القرن السادس عشر. ولكن أوربا المسيحية تعلمت من كوارثها، وحروبها، وأخطائها، وخيباتها، ونجحت أخيراً في فصل الدين عن السياسة والدولة، واليوم الديانة المسيحية معروفة بتسامحها وسعيها للسلام على الأرض. والشعوب العربية والإسلامية تمر الآن بنفس المرحلة العنفية التي مرت بها أوربا قبل قرون، وكأنها مرحلة لا بد أن تمر بها الشعوب في تطورها للوصول إلى سن الرشد الحضاري.
 
والمؤسف أنه حتى في الدول المتحضرة، هناك حالات شاذة واستثناءات تطفح على السطح هنا وهناك بين حين وآخر من أعمال مسيئة تصدر من قبل أشخاص محسوبين على الديانة المسيحية رغم التقدم الحضاري في الغرب، مثل نشر الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للنبي محمد في الدنيمارك قبل سنوات، وحرق القرآن على يد القس الأمريكي المتطرف تيري جونز، واليوم انتاج فيلم مسيء لمشاعر المسلمين.
 
يقابل هذا العنف عنف غير مبرر في الجانب الآخر (الإسلامي). وفي هذه الحالة، وكما عودنا المتطرفون الإسلاميون، أنهم يردون بعنف مضاعف وبشكل إنفعالي وغوغائي، وأعمال انتقامية منفلتة دون مبرر، يذهب ضحيتها أبرياء لا علاقة لهم بالأفعال المسيئة التي قام بها متطرفون في الغرب، وهذا مخالف لتعاليم الإسلام نفسه الذي يؤكد: (ولا تزر وازرة وزر أخرى).
 
وأول هذه الأفعال الإنعكاسية اللاعقلانية هو الهجوم المسلح على القنصلية الأمريكية في بنغازي/ليبيا، وقتل السفير الأمريكي، وثلاثة من زملائه، إضافة إلى تدمير القنصلية بإشعال الحرائق فيها. وتكررت المظاهرات المصحوبة بالعنف ضد سفارات أمريكا وبريطانيا وألمانيا في بلدان عربية وإسلامية عديدة ذهب ضحيتها العشرات وخاصة من بين المتظاهرين أنفسهم في صدامات مسلحة مع الشرطة. 
 
إن ردود أفعال المسلمين قدمت خدمات لا تقدر لأعدائهم. ففي عام 1989 كانت حكاية رواية (الآيات الشيطانية) للروائي البريطاني من أصل هندي، سلمان رشدي، حيث انفجرت التظاهرات الاحتجاجية من قبل المسلمين في جميع أنحاء العالم، وأصدر الإمام الخميني فتوى بقتل المؤلف، الأمر الذي جعل من سلمان رشدي أشهر من نار على علم بعد أن كان كاتباً مغموراً لم يسمع به أحد، وصارت الناس في كل أنحاء العالم تتسابق على قراءة روايته. وهكذا بالنسبة لبقية الأفعال الأخرى المسيئة للمسلمين في الغرب. فهذه الأفعال اللاعقلانية ضد السفارات الأمريكية، والأوربية الأخرى، قدمت خدمة لا تقدر لهذا الفيلم الهابط البذيء، وبذلك نجح منتجو الفيلم في تسخير المسلمين أنفسهم لأغراضهم الإعلامية والدعاية للفيلم ومضمونه، فلو كانوا عارضوه بالوسائل الحضارية السلمية لكان أفضل لهم ولما سمع به أحد.
 
إن الأفعال السيئة وردود الأفعال الأسوأ، يقوم بها متطرفون من الجانبين لأنهم يعرفون بأنهم لا يملكون أسباب عقلانية مشروعة وسليمة لنشر دعوتهم وكسب الجماهير لهم، فيلجئون إلى أعمال مسيئة لمشاعر الجماهير من الطرف الآخر بقصد استفزازها، ودفع التطرف الآخر ليقوم بعمل مسيء مشابه أكثر تطرفاً، على أمل أن ينجح كل طرف في استقطاب جماهير بلاده لقضيته.
 
حجة التطرف الغربي هو وجود الإرهاب الذي تقوده المنظمات الإرهابية باسم الإسلام، وهي نتاج تعاليم الوهابية مثل القاعدة وحركة طالبان في أفغانستان وباكستان وفروعها في العالم. والجدير بالذكر أن الأضرار التي ألحقتها هذه المنظمات الإرهابية بالبشرية ليس في البلدان الغربية فحسب، بل وأغلبها في البلدان الإسلامية، إذ تفيد دراسة أكاديمية أن نحو 80% من ضحايا إرهاب التطرف الإسلامي هم من المسلمين. 
 
فالغرض الأساسي من هذا الفيلم، وغيره من الأعمال التي سبقته، هو إشعال الفتن الدينية والطائفية، والتي يأمل منها تأجيج مشاعر المسلمين الدينية ضد المسيحيين، وبالتالي رفد منظماتهم الإرهابية بالمزيد من الانتحاريين المستعجلين لدخول الجنة بأقصر طريق والزواج من حور العين. ولم استبعد أن يكون هناك جهة واحدة مشتركة وراء هذا التطرف في الجانبين، فتحرك كل طرف لإثارة الطرف الآخر ودفعه للقيام  بعنف معاكس.
 
والجدير بالذكر أن المتطرفين الإسلاميين يستخدمون المواطنين المسيحيين في بلدانهم الإسلامية كرهائن، فما أن يقوم متطرف في الغرب بعمل مسيء للمسلمين حتى وسارع الإسلاميون بالانتقام من مواطنيهم المسيحيين، والقيام بأعمال يندى لها الجبين مثل القتل وحرق الكنائس، وهم يعتبرون أعمالهم هذه شجاعة وبطولة وتضحيات في سبيل الإسلام، بينما في الحقيقة هي أعمال وحشية تدل على الجهل والجبن والتهور ومخالفة لتعاليم دينهم الذي يدعون الدفاع عنه. 
 
إن الإعلان عن الفيلم المسيء، ونشر لقطات منه على الانترنت، والهجوم على السفارات الأمريكية في العالم، والذي دشنه متطرفون بالهجوم المسلح على القنصلية الأمريكية ببنغازي، وقتل السفير وزملائه، لم تكن عفوية ومحض صدفة، إذ كما قال مسؤولون أمريكيون لرويترز، إن ثمة مؤشرات إلى أن عناصر ميليشيا يطلق عليها "انصار الشريعة" قد خططت للهجوم منذ فترة، وأن وقوع كل هذه الأعمال في وقت واحد لدليل على أنها مدبرة بمنتهى الدقة، خاصة وقد جاءت متزامنة مع ذكرى جريمة 11 سبتمبر، فتم استغلال الفيلم كتبرير لهذا الهجوم. 
 
قالوا أن وراء هذا الفيلم أقباط مصريون يقيمون في الخارج، وهذا افتراء، وحتى لو وجد شخص قبطي واحد أو أكثر في إنتاج هذا الفيلم فلا يجب أن نسحب هذه الجريمة على الأقباط في مصر أو أقباط الخارج، فهم أناس مسالمون، خاصة وقد أصدرت الكنيسة القبطية في مصر، وكذلك الجاليات القبطية في الغرب بيانات نددت فيها بإنتاج الفيلم عقب التقارير التي أشارت إلى أن بعض الأقباط في الولايات المتحدة شاركوا في تمويله. 
لا شك أن الغرض من اتهام الأقباط بهذا الفيلم هو لإثارة الإسلاميين المتشددين في مصر ضد الأقباط الذين يشكلون أكثر من 10% من الشعب، خاصة وقد تعرضوا للعدوان على أيدي المتطرفين خلال العقود الثلاثة الأخيرة، مما أدى إلى هجرة الملايين منهم إلى الخارج طلباً للسلامة والكرامة. كذلك يعرِّض هذا الفيلم المسلمين في الغرب للانتقام من قبل المنظمات اليمينية الأوربية المتطرفة. لذا فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: أية فائدة ترجى للأقباط أو المسيحيين في البلدان الإسلامية من هذا الفيلم المسيء؟ الغرض واضح وهو التأجيج والتأليب على الأقليات وإشعال الحرائق، ومنع الشعوب الإسلامية من التفرغ لحل مشاكلها الاقتصادية والاجتماعية، وإبقائها متخلفة مبتلية بصراعات دينية وطائفية وعنصرية لا نهاية لها. 
 
أما اتهام أمريكا بهذا الفيلم، فهو الآخر لم يصمد أمام أية مساجلة منطقية ومنصفة. فإدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، ومنذ يومها الأول، تبنت سياسة التصالح والتقارب "بحثاً عن بداية جديدة بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي استنادا إلى الاحترام المتبادل". وقد دشن الرئيس أوباما حملته السلمية التصالحية مع العالم الإسلامي بخطابه المشهور في جامعة القاهرة، في 4 حزيران 2009. تبعت ذلك تعليمات من إدارة أوباما يمنع بموجبها الربط بين الإرهاب والإسلام. ولكن هناك ناس متطرفون من الجانبين لا يريدون السلام، وتحسين العلاقات بين الشعوب والحكومات، ولا يريدون إعلاء صوت العقل والاعتدال على صوت التطرف والتشدد والتزمت والعدوان.
 
لا شك أن أكبر إساءة وجهت للإسلام والمسلمين هي على أيدي المنظمات الإرهابية الوهابية التي أسستها ورعتها المملكة العربية السعودية. فهذه المنظمات تبرر عداءها لأمريكا بأن الأخيرة تدعم إسرائيل، بينما معظم جرائم القتل والعدوان حصلت في البلدان الإسلامية وبالأخص في العراق لقتل الشعب العراقي، ولم تقم هذه المنظمات بأية عملية ضد إسرائيل، أو لتحرير الجولان وغيرها من الأراضي العربية المغتصبة. 
والجدير بالذكر أن السفير الأمريكي السابق لدى كوستاريكا، كورتين وينزر، أورد في بحث  له "على لسان اليكسي اليكسيف أثناء جلسة الاستماع أمام لجنة العدل التابعة لمجلس الشيوخ في 26 يونيو 2003م  بأن "السعودية أنفقت 87 بليون دولار خلال العقدين الماضيين لنشر الوهابية في العالم"، وأنه يعتقد أن مستوى التمويل قد ارتفع في العامين الماضيين نظرا لارتفاع أسعار النفط. ويجري وينزر مقارنة بين هذا المستوى من الإنفاق بما أنفقه الحزب الشيوعي السوفيتي لنشر أيديولوجيته في العالم بين 1921 و1991م حيث لم يتجاوز الـ 7 بليون دولار. ويلاحظ وينزر جهود نشر الوهابية في عدد من بلدان جنوب شرق آسيا، وأفريقيا والدول الغربية من خلال بناء المساجد والمدارس الدينية والمشروعات الخيرية واستقطاب الشباب العاطل والمهاجرين في هذه البلدان. وتقول هذه الدراسة إن خريجي المدارس الوهابية كانوا وراء الأعمال الإرهابية مثل تفجيرات لندن في يوليو 2005م واغتيال الفنان تيودور فان جوخ الهولندي عام 2004م." (1). 
 
خلاصة القول، في الوقت الذي ندين فيه هذا الفيلم المسيء البائس والهابط في كل شيء، كذلك ندين ردود أفعال المسلمين ضد السفارات الغربية، لأنها كانت أبشع من الفعل، وخدمت الفيلم بالترويج له، وإظهار المسلمين بأنهم أناس همج سريعو الانفعال، تحركهم غرائزهم البدائية. كما واستغلت منظمات التطرف الإسلام السياسي هذا الفيلم لأغراض سياسية بتعبئة الجماهير العربية والإسلامية وشحنها بالحقد والعداء ضد الولايات المتحدة خاصة، والغرب عامة. فما يحتاجه العرب والمسلمون هو التخلص من التطرف، وإعمال العقل في مواجهة ما يسمى بصراع الحضارات والثقافات. 
 
أضع في الهامش رابطاً لخطاب مفتي سوريا في البرلمان الأوربي الذي يدعو فيه إلى التقارب والتآلف بين الثقافات والأديان والمذاهب، وبين الشرق والغرب، فنحن بأمس الحاجة الآن إلى صوت العقل والاعتدال كصوت هذا المفتي، لا إلى التحريض وتهييج الجماهير ودفعها إلى حتفها بإشعال الفتن الدينية والطائفية.(2)




كن في قلب الحدث... انقر هنا لتحميل شريط الأدوات الخاص بالموقع لتصلك الأخبار لحظة حدوثها



تابعونا على صفحتنا علي الفيسبوك
رابط دائم :
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
تقييم الموضوع :