فاطمة ناعوت
الهدايا التى جلبناها صغارًا فى «عيد الأم»، أبدًا لا ننساها. لأن ذكرياتنا القديمة، التى نسجتها طفولتُنا، محفورةٌ فى خزانة «الذاكرة العميقة» التى تعبرُ فوق الزمن، وتتحدّاه. عكس «الذاكرة السطحية»، المؤقتة، التى تُسرِّبُ ما يُنسى من عوابر الأمور. مازلتُ أتذكر أول هدية جلبتها لأمى وأنا فى الصف الأول. وزّعت علينا «ميس فريدة» بطاقاتٍ صغيرةً ملوّنة مُزيّنة بالزهور. وكتبتْ على السبورة: «إلى ماما الحبيبة، كل سنة وأنتِ طيبة» لننقلها فى بطاقاتنا، ثم نوقّعها بأسمائنا، ونُهديها لأمهاتنا حين نعود إلى بيوتنا. ومع مرور السنوات توالت هداياى لأمى وتطوّرت: قارورة عطر، مناديلُ بيضاءُ مطرَّزة بالورود، أجندة مواعيد، قلم، وغيرها من الهدايا كنتُ أشتريها من بوتيك «عم يونان» أسفل عمارتنا. وكان الرد الدائم لأمى على هداياى وهدايا شقيقى: (مش عاوزة هدايا، انتوا هديتى). وكثيرًا ما كنت «أستعبط» وأسترد الهدايا، بعد أسبوع، مبررةً لنفسى تلك الخطيئة بأن ماما «مش عاوزة هدايا»!، ثم دخلتُ فى مرحلة جديدة من الهدايا المعنوية. القصائد. ورقة بيضاء، أكتب فيها عدّة أبيات على بحر الكامل أو الوافر أو المتدارك، لأنها الأسهلُ عَروضيًّا، ثم أزيّن حوافَّ الورقة ببعض رسومات القلوب والزهور الملونة. وبعدما غدوتُ كاتبةً كان الإهداء فى تصدير الصفحة الأولى، لكتابى الأول: إلى «سهير» أمى الجميلة.
ونحن أطفالٌ فى مدارسنا، كان عيدُ الأمّ بالنسبة لنا يحملُ الشىءَ ونقيضَه. كثيرٌ من الإثارة والشغف، وكثيرٌ من القلق والمنافسة، وكثيرٌ من الحزن والشفقة والشعور بالذنب.
نشعرُ بالشغف والإثارة ونحن نختبئ فى زوايا غرفنا، قبل عيد الأم بأيام، لنكسر الحصالات ونعدُّ القروشَ النحيلة التى ادخرناها من أجل ذلك اليوم المهم، حتى نشترى هدية تليقُ بالشخص الجميل الذى تتعلّق عيونُنا بعينيه. الأمُّ. نفرحُ حين تفرحُ هاتان العينان، ونخافُ إن مسّهما غضبٌ. نهزُّ الحصالات لنزِنَ بأيدينا العملات المعدنية الحبيسة، علّنا نُخمّن حجم «الثروة». ثم نذهب إلى المحال نختالُ بثروتنا الصغيرة نودُّ أن نشترى العالمَ لماما. بعدئذ ندخلُ فى المنافسة «الحُلوة» التى تناسبُ طفولتنا حين نقارنُ هدايانا بهدايا الرفاق فى المدرسة، فخورين بما جلبنا لأمهاتنا، وننتظرُ أن توزّع علينا المعلمةُ بطاقات كارت بوستال الملوّن ليُرافق هدايانا؟ تجولُ عيونُنا فى الفصل من حولنا فنجد تلميذًا تدمعُ عيناه وهو يتسلّم بطاقة المعايدة الخاصة به، ولا يدرى ماذا يصنع بها، أو تلميذةً تُطرق برأسِها فوق الديسك لتُخفى عينيها عن عيوننا. هذا أو تلك لا يحبّان «عيد الأم» ولا يُحبّان تلك البطاقات، لأن المُرسَل إليه: «غير موجود». الأمُّ غادرت العالم ولن تعود، فكيف نُرسل لها هديتها؟ هنا يبدأ الحزنُ وتأنيب الضمير لأن صديقة لنا أو صديقًا، ليس لهما ما لنا من نعيم وفرح. الأم. هذا الفريق الحزين من الأطفال، يتعذّبون فى عيد الأم، لأنه يُربِكُ حساباتهم ويفتح لهم سؤالاً وجوديًّا صعبًا: (أين أمّى؟ ولماذا لأقرانى ما ليس لى؟) مثلما يفتح لنا نحن المُنعّمين بوجود الأم سؤالاً لا يقلُّ عُسرًا عن سؤالهم: (أين أمّهاتهم؟ ولماذا لنا ما ليس لأقراننا؟) سؤالهم مضفورٌ بالحزن والشعور بقلّة الحظ، وسؤالنا مضفورٌ بالأسى ومرارة الشعور بالذنب.
اليومَ، وقد غادرتنى أمى قبل سنوات مرّت كالدهور، انضممتُ إلى ذلك الفريق الذى يحملُ له عيدُ الأم شيئًا من المرارة بعدما فقدتُ نعمتى. أين أمّى التى غدا بوسعى الآن شراء نفيس الهدايا فى عيدها؟ هى الآن فى مكان كلُّه هدايا وشموسٌ ونجومٌ وألماساتٌ وأنهارٌ من اللؤلؤ النقىّ. هى الآن حيث تصدحُ الموسيقى وتُشقشقُ العصافيرُ بالنغم والشدو. هى الآن فى حضرة الله الغنىّ السخىّ الذى يُحبُّ الأمهاتِ بقدر ما أحببنا، فوهبنا من فيض حُنوّهن وليالى سهرهن لكى ننام ونكبُر ونغدو أمهاتٍ وآباءَ.
لكنّ الأمهات قبل أن يسافرن فى رحلتهنّ الأبدية نحو السماء يتأكدن أنهن تركن لأولادهن بدائلَ تملأ الفراغَ البارد الذى يصنعه غيابُهن. فهذا العالمُ ملىء بالأمهات الرائعات اللواتى يصنعن الفرح. اليومَ سوف أذهب إلى «دار الأمير لرعاية المسنين» فى شبرا، لأقضى «عيد الأم» مع أمهاتٍ جميلات نسيهنَّ أولادُهن.
شكرًا لأمى العظيمة القوية التى صنعت منّى إنسانًا جادًّا مسؤولا يقدّس العمل ويحترمُ الآخر، طوباها حيثما تكون فى أى زاوية من زوايا فردوس الله الأعظم. وشكرًا لمعلماتى اللواتى كنّ بالنسبة لى أمهات أخريات تعلّمتُ على أياديهن البيضاء العلوم والقيم. فى عيد الأم، اليومَ أقول لكل أمٍّ: كلّ عام وأنتِ زهرةٌ من زهور هذا الكون.
twitter:@fatimaNaoot
نقلا عن المصرى اليوم