سحر الجعارة
قل عنها ما شئت: عنيدة.. متكبرة.. جريئة، مقاتلة.. العنها كل يوم.. اهدر دمها وكفّرها إن شئت.. لقد انتصرت الدكتورة «نوال السعداوى» حتى بعد عام من وفاتها!.
وبعد عام من رحيلها، الذى وافق 21 مارس، كانت أفكار «السعداوى» تتحول إلى قوانين: (تغليظ عقوبة التحرش، منع الختان، منع زواج القاصرات).. لم تعد «نوال السعداوى» هى الكتب المحرمة فى حياة كل فتاة مصرية، بل أصبحت عنواناً لـ«التمرد والعصيان» على الثقافة الذكورية، لقد صعدت أجيال بعدها من النساء المستنيرات، اللاتى يمتلكن «الوعى» والقدرة على التغيير.. إنها الطبيبة التى فسرت لنا خريطة الجسد وحررته من أسْرِ العبودية، إنها أول مَن حطم تابوهات «الجنس والدين» لتصطدم بـ«تابوه السياسة».
فى بداية رحلتى إلى الكتابة والنضال وجدت نفسى برفقة الدكتورة «نوال» والدكتور «شريف حتاتة» و«منى حلمى» فى لندن، ندعم المقاومة الإيرانية «حركة مجاهدى خلق»، فى مؤتمر حمل عنوان «المرأة صوت المقهورين».. بحضور رئيسة الجمهورية المنتخبة للمجلس الوطنى للمقاومة الإيرانية «مريم رجوى».. ولم يكن المؤتمر إلا تلخيصاً لرؤيتى عن رفع القهر عن المرأة: إننا أمام تحدٍّ سياسى واجتماعى وثقافى وعقائدى، أمام صدام حتمى مع أخطبوط الاستبداد الدينى والمرأة تقف على خط المواجهة.
الحفاوة التى أحاطت «السعداوى» كانت دليلاً على أننا -آنذاك- لم نعرف قيمة «الشجاعة والجرأة»، ومعنى أن تدفع «السعداوى» ثمن مواقفها: (فى سبتمبر 1981 دخلت «السعداوى» السجن ضمن حملة اعتقالات طالت معارضى الرئيس المصرى -آنذاك- «أنور السادات»، وحينها كتبت مذكراتها باستخدام مناشف ورقية وقلم لرسم الحواجب هرّبته إليها عاملة سجينة.. وفى عهد «مبارك» كانت بطلة لمسلسل التشهير والتكفير، وفتحت النيابة العامة ملف التحقيق فى دعوى حسبة ضدها، فهى دائماً متلبسة بجريمة حرية الفكر ومُعرَّضة لإقامة حد الحرابة أو حد الردة عليها!).. ولم تهن ولم تضعف، كانت مستعدة تماماً لدفع تكلفة «تحرير المرأة» من حريتها وسمعتها.. بل وحياتها أيضاً.. وهذه القيمة الحقيقية للفكر والتنوير!.
لم تكن دكتورة «نوال» تتاجر بأنوثتها، بل على العكس، كانت ملابسها محتشمة ولا تضع مكياجاً ولا تصبغ شعرها «صورتها رسالة»: جمالك هو عقلك وفكرك وليس جسدك.
وقتها كانت «الحركة النسائية» تهمة وهى تتباهى بها بدلاً من أن تنكرها.. لأنها آمنت بكل حرف كتبته، وكانت متطابقة تماماً مع أفكارها، لم ترتد «ميكروجيب» لتعلن تمردها على حبس النساء خلف النقاب!!. فهل مطلوب من كل امرأة تتصدى للشأن العام أن تتحلى بالوقار والحشمة؟.. بالتأكيد أنه «مفروض»، فالإباحية نقيض الحرية.. وأى مهمومة بقضايا المجتمع يجب ألا تسىء لقضية المرأة.. هذا أحد الدروس المهمة الذى لم يلتزم به البعض!.
لقد اختلفت كثيراً مع بعض أفكار «السعداوى»، لكنى كنت أحترم شجاعتها، قدرتها على الصمود فى مواجهة مجتمع منافق يختبئ خلف عباءة «الإسلام السياسى» ويتمترس بمنظومة من القيم المزيفة التى تكرس نموذج «المجتمع الذكورى»، الذى يناهض حقوق الإنسان ليخفى هشاشة الرجال وضعفهم وسطوتهم الشرهة للاستيلاء على حقوق النساء، منذ الميلاد «تشويه الأعضاء الجنسية للمرأة»، مروراً بحرمانها من التعليم والعمل والميراث، وصولاً إلى تحريم صوتها ومصادرة وجودها لأنها «عار وعورة».. وكانت «نوال» فى القلب من المعركة: مقاتلة، مشاغبة، شرسة.. كانت امرأة خطيرة على المجتمعات العربية.
«نوال السعداوى» باقية لأن «الرمز خالد»: الكفاح الطويل من أجل الحرية والكرامة، امتلاك «المعرفة» بحقوق المرأة القانونية والاجتماعية والإصرار على تفعيلها.. سوف تتجسد «د. نوال» كل يوم حين تتحقق «أفكارها التنويرية».. بعدما وضعت كتالوج «انتصار العقل» فى مواجهة أوهام السلطة الدينية.
نقلا عن الوطن