عاطف بشاي
اختفى الناقد الفنى الحقيقى فى مجال السينما والدراما التليفزيونية فى الصحف والمجلات اختفاءً مريبًا.. ولم يعد هناك سوى قلة نادرة من النقاد الكبار يُعدّون على أصابع اليد الواحدة، بعد رحيل قامات سامقة فى هذا المجال.. وظهور عدد قليل على استحياء من شباب واعدين لا يجدون مساحة كافية أو فرصًا جيدة فى النشر، وسط سيطرة كاملة من نقاد «العلاقات العامة» أو النقاد بالصدفة أو بالإحراج أو بالإكراه أو الإلحاح أو النقاد الحاقدين أو الشتامين، وهم الذين فشلوا فى أن يكونوا مبدعين فأصبحوا كارهين للمؤلف وللمخرج والدراما والفن والحياة كلها وتحولوا إلى نقاد..
كما انتشرت فى قاموس النقد السريع المريع الأكلاشيهات والتعبيرات الجاهزة، مثل تفوق الممثل الفلانى على نفسه فى تأدية الدور، أو ارتفعت الممثلة العلانية إلى قمة الإبداع فى تجسيدها للشخصية، أو كانت الموسيقى معبرة أو السيناريو رائعًا أو يتصف بالمط والتطويل.. أو يتخذ شكل العبارات المأثورة أو الأحكام الخالدة، مثل «الوصول إلى القمة سهل.. ولكن الاحتفاظ بها صعب»، أو «ينبغى أن يكون النقد بناءً وليس هدامًا».. إلخ.
لذلك أسعدنى جدًا قراءة الكتاب المدهش الذى صدر حديثًا بعنوان «السينما المصرية والأدب- قصة حب» للناقد المخضرم الكبير «أمير العمرى»، وهو صاحب إنجازات باهرة فى النقد السينمائى، وصل عددها إلى (23) كتابًا، تشمل خلاصة تحليلاته العميقة فى اتجاهات السينما المعاصرة المحلية والعالمية.. ويضم كتابه الأخير هذا دراسات مقارنة بين عدد من النصوص الأدبية، والسيناريوهات السينمائية التى أعدت عنها بعد أن أصبحت أفلامًا سينمائية.. وهو يلقى فيه الضوء على النص الأدبى.. ويحلله سياسيًا واجتماعيًا وفلسفيًا وفنيًا ويفسر مغزاه ويستخلص منه العبرة والهدف ويفك رموزه.. ويضع يده على مفاتيحه.. ويكشف ملامح شخوصه النفسية والاجتماعية وعلاقتهم بهموم الواقع المعاش.. ويعقد المقارنة بين الرواية الأدبية وبين الفيلم المأخوذ عنها، ويكشف عن منطقية الأحداث المرئية وتصاعدها وصولًا إلى الصراع بنوعيه الخارجى والداخلى، ثم الذروة الدرامية.. ويغوص فى تحليل الفروق الجوهرية بين النص الأدبى واللغة السينمائية.. أوجه الاتفاق والاختلاف.. ويشتبك مع المؤلف والمخرج فى الجدل المثمر حول الغرض من الدراما.. وسلبيات وإيجابيات الحبكة الدرامية بعناصرها المختلفة..
ويتناول المؤلف عشرين فيلمًا مقتبسًا عن عشرين رواية لأحد عشر مؤلفًا من كبار كُتّاب الرواية المعاصرة، ابتداءً من طه حسين ونجيب محفوظ وفتحى غانم ويحيى حقى وإحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس ويوسف السباعى، وانتهاءً بنجيب الكيلانى وإسماعيل ولى الدين وثروت أباظة، ويخضعها للدراسة المقارنة التفصيلية بين الرواية والفيلم وبين العمل الأدبى والسيناريو السينمائى.. وفيما يتصل بنجيب محفوظ تناول المؤلف بالتحليل والمقارنة ست روايات تحولت إلى أفلام سينمائية، هى «السراب» و«الشحاذ» و«الحب تحت المطر» و«الكرنك» و«الحب فوق هضبة الهرم» و«أصدقاء الشيطان»، وهو يؤكد من خلالها حقيقة أن الأدب أفاد السينما تمامًا كما أفادت السينما الأدب.. فمثلًا لولا السينما المصرية لما أصبحت روايات نجيب محفوظ قد ذاعت وانتشرت بين القراء.. كما أنتجت فى معالجات كثيرة فى السينما والتليفزيون.. وهذه حقيقة تؤكدها أنه فى الفترة التى تحولت ثلاثية نجيب محفوظ «بين القصرين» و«قصر الشوق» و«السكرية» إلى أفلام من إخراج «حسن الإمام» ونجحت نجاحًا جماهيريًا كبيرًا، عانى حسن الإمام وقتها من ردود أفعال النقاد الغاضبة حينما تباروا فى اتهامه بأنه شوه وأساء كثيرًا إلى الروايات وقيمتها الفكرية والإنسانية والسياسية الكبيرة بإفراطه فى مغازلة شباك التذاكر بالمشاهد المثيرة والمبتذلة، وأعلن حسن الإمام وقتها أن نجيب محفوظ أثنى عليه وسانده ضد هذه الحملة الضارية، وأعلن إعجابه البالغ بالمستوى الفنى للأفلام.. وقال له ما معناه ألا يهتم بالهجوم عليه، بل عليه أن يضع تلك المقالات النقدية تحت قدمه، فسوف يجد نفسه وقد ارتفعت قامته فى شباك التذاكر.. وأتذكر أنى فى بداية رحلتى فى التأليف الدرامى أن قمت بكتابة سيناريو وحوار الفيلم التليفزيونى «تحقيق»، المأخوذ عن قصة قصيرة لنجيب محفوظ بنفس الاسم، توصلت فيها إلى بناء درامى مختلف عن السياق المكتوب بالقصة، مع عدم الإخلال بمضمونها ومحتواها الفكرى.. ذلك أن القصة بطبيعة شكلها الملغز القائم على تداخل الأزمنة والأمكنة ونسف منطق التتابع الذى يعتمد على التسلسل التقليدى.. ورسم الشخصيات الملتبس الذى يُضفى على القصة كلها شكلًا عبثيًا وإطارًا رمزيًا.. وحينما عرض التليفزيون الفيلم فى أوائل الثمانينيات، سأل الناقد «محمد صالح»، نجيب محفوظ عن رأيه فى الفيلم ملمحًا له أن السيناريست قد غير كثيرًا فى أحداث القصة ورسم الشخصيات والنهاية، وحول اتجاهها من قصة تنتمى إلى أدب «اللامعقول» إلى فيلم معقول.. فأكد له نجيب محفوظ: «حسنًا ما فعل..»، فقد سبق أن التزم كاتب سيناريو آخر بقصة عبثية أخرى هى «شهر العسل» بنفس طريقة الحكى والبناء العبثى، فأغلق الناس التليفزيون.
يؤكد هذا الاعتراف أن كاتبنا الكبير كان يدرك تمامًا الفروق الجوهرية بين لغة الأدب واللغة المرئية وأن الرواية المقروءة تختلف اختلافًا كبيرًا فى بنائها وطريقة سردها عن طبيعة العمل المرئى من خلال السيناريو الذى يعتمد على أدوات ووسائل مختلفة.. ومن ثم، فإن السيناريو فن قائم بذاته ولا يعتبر كاتبه مجرد وسيط أو معدّ.. أو ناقل أو محاك للرواية الأصلية.. وإنما هو ينشئ عالمًا كاملًا يوازى عالم الروائى، يتفق معه فى المضمون الفكرى ولكنه يختلف عنه فى وسائل التعبير.
وهو ما ركز عليه الناقد الكبير «أمير العمرى» فى مؤلفه الجميل والممتع، مستعيرًا ما قالته كاتبة السيناريو الأمريكية «جودى ساندرا»: «إن تحويل رواية أدبية إلى فيلم سينمائى تجديد، منزل عليك هدمه من الداخل قبل إعادة تحويله إلى شىء جميل مرة أخرى».
نقلا عن المصرى اليوم