د. منى حلمى
أمام الناس، كانت «أمى». وهذه كانت لعبتنا الجادة، أو خدعتنا النبيلة. كذبة عشنا صدقها، قدر المتاح. كان «تزويرًا رسميًّا»، لم نعاقب عليه.
والحقيقة أنها «طفلتى» الوحيدة، شَعرها كالثلج، قوام رشيق لا ينحنى، سمراء فاتنة، أنجبتها دون رجل، بلا ألم.
وسنبقى أبدًا على الحبل السُرى، السِرى، الواصل بيننا.
«طفلة تصحو وهى تغنى، متمايلة على إيقاعات حلم مستحيل، لا يفارق الوسادة، تحدق فى الشمس،، لا تلعب بالعرائس، ولكن بالأسئلة الممنوعة عن الأطفال، المحرمة على الكبار.
فى شقة صغيرة بالجيزة، بدأت مسيرة حياة كبيرة لأسرتنا. «نوال.. شريف.. منى.. عاطف». ربما الغرف ضيقة، لكن قلوبنا وعقولنا وأحلامنا رحبة.
شهدت أمى الملاحقات والمطاردات التى لم تنقطع، من الجميع، حراس الأنظمة السياسية الذكورية ورجال الدين وشلل كهنة النقد، والنخب الإعلامية، وأدعياء الوطنية والفضيلة، منذ عبد الناصر، ومرورًا بالسادات التى أودعها السجن، وصولًا إلى مبارك حيث اكتمل حصار التعتيم والتشويه.
سجنها السادات 1981، ليس لمقالاتها المتكررة ضد سياساته، ولكن لأنها وقفت فى اجتماع تسأله: كيف يأتى متأخرًا ثم يلقى خطبة عن أهمية الوقت، فى زمن المعركة؟.
وتقول إن فترة السجن (3 شهور) كانت من أجمل فترات حياتها. كانت تلعب رياضة، وتزرع، وكتبت على ورق تواليت وقلم حواجب مهرب لها من إحدى السجينات، واحدًا من أروع كتبها وهو «مذكراتى فى سجن النساء»، والذى كان السبب فى وضع صورتها على غلاف مجلة التايم الأمريكية باعتبارها شخصية العام 1981، ودخلت قائمة أهم مائة امرأة مؤثرة فى القرن العشرين.
فى جميع معاركها، أرى أمى، صامدة، واثقة، مبتسمة، لا تهتز لها شَعرة، ولا يرجف لها جفن.
وكان «شريف حتاتة» أبى الذى لن يعوض، 13 سيتمبر 1923، 22 مايو 2017، يقدم لها كل الدعم والحب والزهو، وفى القنوات الإعلامية، يرد على الاتهامات والبذاءات، بشخصيته المعهودة بهدوئها، وصلابتها، ورسوخ حجتها، كما أن خبرته كمناضل سياسى، دربته على هذه المواجهات، وفضح هذه الإدانات، ظاهرها دينى، وباطنها سياسى.
«لن نفترق».. هذه كلمته، عندما أرادوا التفريق بينه وبين أمى، وسحب جنسيتها المصرية.
لا رجل أو زوج غيره، كان يستطيع مرافقة أمى، فى مشروعها الحضارى، غير قابل للمساومة، ورحلة كتاباتها، وتمردها الجذرى. وهو أول منْ ترجم كتبها ورواياتها إلى الإنجليزية. هو مثلها، متمرد، وكاتب، مناضل سياسى، ذاق قهر الأنظمة الاستبدادية، ودفع الثمن بكبرياء وشموخ واستغناء.
كانت أمى «مستغنية» عن كل الأشياء، لا تريد من هذا العالم «المعوج» إلا أن تُترك لتستغرق بالساعات، دون إزعاج، لتكتب كيف «ينعدل».
وجائزة نوبل التى كانت مرشحة لها منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضى، وحتى سنة 2021، لم تعنيها. كانت تدرك أنها جائزة سياسية فى المقام الأول والأخير، تعطيها إحدى الحكومات الدائرة فى فلك أمريكا وإسرائيل، فكيف تنالها، وهى ضد سياسات أمريكا وإسرائيل؟!.
مع أن السويد من أكثر البلاد التى تحظى فيها أمى بشعبية كبيرة من جهات متعددة، ومنحتها جائزة «ستيج داجرمان»، الأديب السويدى المرموق الذى مات منتحرًا، وقالوا إن منْ يحصل على هذه الجائزة تكون نوبل هى التالية.
تعتقد أمى أنه إذا أنشأ ألفريد نوبل جائزته، ليكفِّر عن اختراعه للديناميت المدمر، فإن جائزته هى اختراع مدمر آخر، يضرب استقلالية الأدب، والانتقاص من إبداعيته، لحساب المواقف السياسية، وتحويل فن الكتابة إلى سلعة استهلاكية لها ثمن فى «السوق الرأسمالية»، وشد الأديبات والأدباء إلى منافسة لا يحتاجونها، ولا تليق بهم.
كتبت أمى: «جائزة الاستغناء عن الجوائز»، بعد أن طالب البعض بإهدائها أعلى وسام مصرى، «قلادة النيل»، بعد الجوائز والتكريمات الكثيرة على مستوى العالم، شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا.
فى تونس مثلًا، يدرّسون بعض كتاباتها. ونالت وسام الجمهورية من فرنسا، وكتالونيا بإسبانيا، وتونس، وغيرها.
وترجمت جميع أعمالها (80 كتابًا) إلى 40 لغة عالمية، حتى الصينية، واليابانية والفارسية.
أحيانًا كنت أشعر بالضيق من المواقف التى تتعرض لها أمى، تبتسم قائلة: «لا تبالى بهم، يدافعون عن وجودهم، ولا يملكون إلا أسلحة رخيصة مستهلكة متهالكة، بضاعتهم الوحيدة.. ويومًا ما سوف تصوب إليهم.. وكلما زادوا شراسة تيقنت أننى أصبت الأفعى السامة فى رأسها».
فاتت سنة منذ رقدت أمى وطفلتى وحبيبتى «نوال»، رقدتها الأبدية، الأحد 21 مارس 2021، الثانية عشرة ظهرًا، عيد الأم.
فى عيد الأم 2006، كتبت أننى أريد أن أحمل اسم أمى، إلى جانب اسم أبى، تكريمًا لها، وتعبيرًا عن حقيقة بديهية، أننى صنع أم وأب، جرونى إلى المحكمة بتهمة إنكار المعلوم من الدين بالضرورة، لأن النسب فى الإسلام إلى الآباء.
نقلا عن المصرى اليوم