منى أبوسنة
«مدنية حديثة ديمقراطية» هو ما نريده فى «الدولة الوطنية»، وهو المصطلح الذى تستخدمه الدولة فى أكثر من مناسبة، باعتباره نقيض الإرهاب الذى يستخدم الدين من أجل تدمير تلك الدولة.
قد يتساءل البعض: هل ثمة دولة غير وطنية؟ فى ظنى أن الجواب بالإيجاب، بمعنى أن الدولة غير الوطنية هى الدولة الدينية الإخوانية التى لا تعترف بالوطن وتعتبره مجرد حفنة تراب لا يصلح فيها الانتماء أو الولاء، على حد تصريح أحد مرشدى الجماعة. ونسأل: ما المقصود بالدولة الوطنية؟ فى ظنى أن المقصود بالدولة الوطنية هو التعبير عن مصطلح جديد ينطلق من مفهوم المواطنة من حيث إنه السمة المميزة فى الجمهورية الجديدة، والذى يتلاقى مع مفهوم الدولة الأمة الذى تأسس فى أوروبا وحل محل الدولة الدينية التى سادت فى أوروبا فى القرون الوسطى. ولفظ «الدولة الأمة» يعنى أن الأمة هى التى تشكل الدولة، ومن ثم تصبح الدولة انعكاسًا لتلك الأمة، ولكل ما تشتمل عليه من قوى وطبقات وثقافات وأديان ومعتقدات، بلا تفرقة أو تمييز بينها. والدولة الأمة فى جوهرها ذات طابع علمانى، أى أن الدولة لا تمييز بين أفرادها على أساس الدين أو العرق أو المعتقد، وذلك من خلال التشريعات والقوانين.
وإذا صح فهمى لمعنى الدولة الوطنية، فإن ثمة تناقضًا يبزغ هنا بين الدولة الوطنية والمادة الثانية من الدستور المصرى الحالى، التى تنص على أن الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع. وإذا كانت الجمهورية الجديدة تتسم بالمدنية والحداثة والديمقراطية، فإنها أيضًا تتناقض مع نص المادة الثانية من الدستور. والسؤال الآن: كيف نرفع هذا التناقض؟ إن المدخل إلى رفع هذا التناقض، فى تقديرى، يشترط أولًا توضيح معنى لفظ «مدنية» الذى يتكون منه الشعار الثلاثى للجمهورية الجديدة. فإذا كان المقصود بلفظ «الدولة المدنية» هو الدولة التى لا تميز بين مواطنيها على أساس العقيدة الدينية، وتشرع القوانين على هذا الأساس، فإن طبيعة تلك الدولة، أى «الدولة المدنية»، تكاد تقترب من «الدولة العلمانية» التى نشأت وانتشرت فى أوروبا، ليس كمفهوم سياسى أو دينى، وإنما كأسلوب حياة ومنهج تفكير فى المقام الأول للتعامل مع القضايا والمشكلات الاجتماعية والسياسية فى حدود القانون، والتى فى حقيقتها لا تستبعد الدين من المجتمع، كما يشاع، لكنها لا تسمح لمواطنيها بأن يفرضوا معتقداتهم على بعضهم البعض دون وجه حق، أى بمخالفة القوانين والتشريعات، وإذا أخذنا بمعنى لفظ «العلمانية» فى هذا الإطار، فإن الإشكالية الأولى التى تواجهنا هى على النحو التالى: نشأة وانتشار مفهوم العلمانية فى أوروبا على النحو سالف الذكر وغيابها شبه التام فى العالمين العربى والإسلامى.
والسؤال الآن: كيف نرفع هذا التناقض؟.
الجواب: بتوليد ظاهرة ابن رشد، ذلك أن ابن رشد يعتبر ظاهرة فريدة فى تاريخ الفكر الإنسانى، ففى تلك الظاهرة تجتمع العناصر الأساسية المكونة للبنة الأولى للديمقراطية باعتبارها حكم الشعب بالشعب، كيف؟.
فى فلسفة ابن رشد، تتجلى محاولته لتجديد الفكر الدينى، متمثلًا فى دعوته إلى الاعتراف بمشروعية التفلسف فى النص الدينى باستخدام البرهان العقلى، بالإضافة إلى القياس الشرعى فى علم الكلام، بيد أن هذه المحاولة الجسورة التى سطرها فى مؤلفه الشهير «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال» قد أجهضت تمامًا بفضل السلطة الدينية المتمثلة فى علماء الكلام من أتباع الغزالى من جهة وبمؤازرة السلطة السياسية من جهة أخرى، وبذلك فشلت محاولة ابن رشد لتجديد الفكر الدينى، كما تنطوى ظاهرة ابن رشد أيضًا على مبدأ العلمانية الناشئ عن مفهوم ابن رشد للتأويل بما ينطوى عليه من تعددية ونسبية، مع الاستناد إلى البرهان بشقيه الشرعى والعقلى، مما يترتب عليه ضرورة إلغاء مبدأ الإجماع الذى يدعو إليه علماء الكلام.
إذن، إجهاض محاولة ابن رشد تعنى بالضرورة القضاء المبكر على «الدولة الوطنية» فى مهدها، وهى السمة الغالبة على طبيعة الجمهورية الجديدة، ومن ثم حرمان الشعب من قدرته على تمثل قيم المدنية والحداثة والديمقراطية، وممارسة تلك القيم فى الواقع من خلال قدرة الشعب على إعمال العقل الناقد والتفكير المبدع للمشاركة فى بناء الجمهورية الجديدة.
فبعد توقف المسار، مسار فكر ابن رشد، فإنه من البديهى أن تتوقف المحاولات، وأن تخلو الساحة العربية الإسلامية من أى أفكار تَمُتّ إلى المدنية والحداثة والديمقراطية بصلة. فإذا أردنا رفع التناقض بين الدولة الوطنية والمادة الثانية من الدستور، فعلينا أن نبدأ من حيث توقف ابن رشد، وذلك يستلزم أن نكون على وعى بأننا نحيا فى عصر ابن رشد، أى فى القرن الثانى عشر، وليس فى القرن الواحد والعشرين كما نتوهم، وعندما نكون على قناعة بذلك، فعلينا أن نأخذ معنا كلًا من الشيخ على عبدالرازق وطه حسين، لكى نعمل معًا فى رحاب فكر ابن رشد من أجل تأسيس الدولة الوطنية. وبعد أن يتم كل ذلك يمكننا أن نؤسس دستورًا جديدًا يخلو من المادة الثانية من الدستور، بيد أن تحقيق كل هذا يشترط أولًا إلغاء المادة الثانية من الدستور، حيث إنها تقف عائقًا أمام عودتنا إلى زمن ابن رشد، لأنها تكرس وهم أننا نحيا فى القرن الواحد والعشرين، لكن بعقلية ما قبل ابن رشد.
نقلا عن المصرى اليوم