خالد منتصر
بالصدفة البحتة، ومع بداية الحرب الروسية - الأوكرانية قرأت رواية الروائية ضحى عاصى، دون أن أكون قد عرفت موضوعها أو قرأت عنها أى «ريفيو»، فكّت الرواية شفرات كثيرة كانت مستعصية على الحل والفهم لتلك الأحجية التى نكتوى بنارها دون أن نفهم أسبابها، لكن ما أبهرنى أكثر من تلك الصدفة، وذلك الارتباط، هو لغة الرواية المدهشة، رواية «صباح ١٩ أغسطس» الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، هى رواية مختلفة ترصد مناخاً مختلفاً وشخصيات فريدة لم يتم تناولها من قبل، فى زمن مللنا فيه من التكرار والنمطية والقوالب سابقة التجهيز والروايات التى صارت كالأكل «البايت»!

أحداث الرواية ما بين روسيا ومصر، البطلة «كاملة» نصفها مصرى من الأب ونصفها الآخر روسى من الأم، ما بين الثلج والصقيع والدفء والسخونة، من أجواء الانقلاب الروسى على جورباتشوف إلى حكم الإخوان، ثم ٣٠ يونيو، بالرغم من أن اسمها «كاملة» إلا أنها ظلت ناقصة الحضن والاحتواء والتحقق، الطب الذى تعلمته فى الاتحاد السوفيتى لم تعمل به، الزوج الشيشانى رسلان الذى أحبته غاب فى أفغانستان، ثم ظهر فى نهاية الرواية مجاهداً إسلامياً مطلوباً من الجميع، وتنتهى قصته بمانشيت مقتله، ابنها صادق الذى صنع عالمه الخاص البعيد تماماً عن عالمها، حتى مجال السياحة الذى خاضت غماره وتعاملت كوسيط بين المافيا الحمراء ورجال الأعمال تبخّر وصارت حبيسة الأطلال، أم تركت عزف كورساكوف وتشايكوفسكى لتكوم تلال الجليد فى شوارع تلفظ الفقراء والغرباء.

جدة علمها الجوع والحصار أكل الحيوانات النافقة، وحمتها رواية بطرس الأول من الموت حين احتضنتها، وجد حارب فى ليننجراد وباعت نياشينه لتأكل بعد أن نهشه السرطان، «كاملة» لم تصل إلى الكمال إطلاقاً، رواية آسرة فى بساطتها، مدهشة فى عالمها، ساخنة فى إيقاعها.

ضحى عاصى تكتب عما تعرفه وعما لمسته عن قرب، عن عالم تجيد قراءته جيداً من خلال تجربتها فى الاتحاد السوفيتى، ورحلتها من الطب إلى السياحة إلى التاريخ إلى كتابة الرواية، كاتبة خرجت من بيت أب أزهرى فى حزب التجمع!! من هذه الخلطة المدهشة تكونت حاسة وذائقة وجرأة وتمرد وعمق كتابات ضحى عاصى، اللغة رشيقة بدون زخرفة، والجرأة صادمة بدون ابتذال، والحكى دقيق بدون ثرثرة، «صباح ١٩ أغسطس» رواية تُقرأ أثناء الحرب وبعد الحرب، كانت الحرب مجرد باب دلفنا منه إلى عالم الرواية البديعة والروائية المتميزة التى تنسج عالمها الروائى بهدوء وثقة ودأب كالدانتيلا الرقيقة التى تغلف علبة الأسرار والألغاز وحكايات الجدات المدهشة.
نقلا عن الوطن