كمال زاخر
 الموارد محدودة والاحتياجات متعددة، كانت عنوان درس الاقتصاد الأول ومحور ما تلاه من دروس قبل نحو نصف قرن ونحن جلوس فى مدرجات كلية التجارة، ومنها بدأت مداركنا تستوعب نظريات وطرق إدارة الموارد وتعظيمها، وترشيد وترتيب الاحتياجات، اقتربنا من مفاهيم القيمة وإشكالية الندرة، أدركنا أن الحروب والصراعات بامتداد التاريخ واتساع الجغرافيا ليست مجرد سعى للسيطرة المجردة، بل كانت واحدة من آليات حل إشكالية الموارد والاحتياجات.

وفى تقديرى أن التدخل الروسى فى اوكرانيا وتداعياته لا يخرج عن كونه تنويعة على إشكالية الموارد والاحتياجات، حماية للأولى وتحكما فى الثانية، فى واحدة من اكثر المناطق امتلاكا لأهم موارد الطاقة والغذاء وخامات التعدين، والتى تدور حولها الصراعات، رغم كل ما يقدم من تبريرات وتفسيرات من اطرافها، وهو ما تكشفه قرارات الغرب خلف حراك إمدادات الأسلحة والدعم اللوجيستى منه لاوكرانيا، وهى قرارات اقتصادية فجة، امتدت آثارها لكل العالم، بل طالت حتى الدول والقوى الاقتصادية التى اتخذتها، وظنى أن خريطة العالم ستشهد تغيرات حادة لا تقل عن تلك التى حدثت عقب الحرب العالمية الثانية.

على أن الذى يعنينا ويأتى على قمة أولوياتنا هو كيفية مواجهة تداعيات تلك الحرب المستعرة والتى وضعت التحالفات العالمية السائدة على المحك، بل تحمل تهديدا للمنظمات الدولية التى تأسست عقب الحرب العالمية الثانية، وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة وما تفرع عنها من منظمات حقوقية وتمويلية وإغاثية، بل وضعت مفاهيم الديمقراطية والحريات وتداول السلطة سلميا والسلام الدولى والتوازنات الإقليمية أمام اختبار حقيقى، ويستوى فى هذا العالم الأول والعالم الثالث ونحن فى القلب منه.

الأمر فى مصر أكثر دقة فهذه تعد الموجة الثالثة من المخاطر، بعد زلزال ثورات الربيع/ الخريف العربى التى طوحت بنا وكادت تضمنا إلى مربع دول المنطقة التى تمزقت على خلفيات الإثنيات العرقية والمذهبية والطبقية مدعومة بالتراجع الاقتصادى لولا يقظة القوات المسلحة وتدخلها الحاسم فى مواجهة تحالفات المد الأصولى مع خلايا الدولة العميقة ودعم القوى الإقليمية المتربصة، وكانت التكلفة فادحة تحملها المواطن المصرى ودفعها بجسارة من أرواح شبابه ليضع نقطة فى نهاية سطر الإرهاب والتطرف وتخرج مصر أكثر قوة عصية على التفتيت والتقسيم، بل تخوض معركة اعادة البناء بواقعية لتعيد بناء البنية التحتية وتوقف تجريف الرقعة الزراعية وتنتبه للظهير الصحراوى وشبكة الطرق وتفكيك قنبلة العشوائيات المزمنة.

وبينما نتهيأ لحصد نتائج نجاحات اقتحام مشاكلنا ومتاعبنا المزمنة، تقتحمنا موجة وباء كورونا بشكل مباغت، وما استتبعها من إجراءات احترازية وقيود التباعد وانعكاسات هذا على حركة السوق بالداخل والخارج، وللمرة الثانية يصمد المواطن المصرى أمام الجائحة وتوابعها ويواصل تحدى الانكماش الاقتصادى، الذى ألقى بظلاله على مدخلات الدخل القومى بفعل تراجع حركة السياحة، وارتفاع تكلفة المواد الخام والطاقة ومدخلات الصناعة فضلا عن زيادة تكلفة النقل من الخارج.

ثم تختتم ثلاثية المخاطر بالتدخل الروسى فى أوكرانيا، والذى لاتزال رحاه تدور، وآثاره تتوالى، لتقفز المعالجات الاقتصادية فى محاولات لامتصاص صدمات التضخم فى كل بلاد العالم، عبر آليات الاقتصاد التقليدية، مثل رفع سعر الفائدة بالبنوك، ومراقبة الأسواق فى محاولة لضبطها، وضخ كميات استثنائية من السلع الأساسية لبث الطمأنينة فى الشارع، وتحمل لنا التغطيات الإخبارية أنباء عن قرارات روسية بمد مصر وتركيا باحتياجاتهما من القمح ربما لكونهما معبرين استراتيجيين لحركة التجارة الروسية، قناة السويس هنا ومضيق البسفور والبحر الأسود هناك، ويتعاظم دورهما مع قرارات الغرب بحصار روسيا اقتصاديا.

استطعنا اجتياز الموجة الأولى بقوة وانحسر الإرهاب سواء فى الوادى أو سيناء وخرجت مصر أكثر قوة واتحادا، بفضل بسالة شعبها، وموضوعية إدارة الأزمة، وكذلك الأمر مع الموجة الثانية فى تصدينا لجائحة الوباء العاتية وكانت التكلفة فى كلتيهما فادحة، لكننا تركنا لأجيالنا القادمة ملحمة مصرية حافظت على الوطن ووحدة وسلامة اراضيه، وبالتوازى كنا نكتب ملحمة إعادة بنائه ومازلنا نفعل ذلك، بعد أن جرفته تجارب سابقة تاهت بوصلتها لعقود استنزفت قوانا، وكان سر الصمود فى الإنسان المصرى.

ودعونا نتوقف أمام الموجة الثالثة ـ التدخل الروسى فى أوكرانيا ـ الذى لا يبدو فى الزمن المنظور ملامح تشير الى توقيتات نهايته أو ما سيخلفه من نتائج، فيما يتعلق بنا وكيفية مواجهة تداعياتها، ربما نحتاج للعودة إلى قواعد الاقتصاد الأولية، فقوة الدولة تحددها قدرتها على الاكتفاء الذاتى بتعظيم الموارد الذاتية لتغطى احتياجاتها، ومصر بعيداً عن التنظير تملك قاعدة عريضة من الكيانات الإنتاجية الصغيرة ومتناهية الصغر، فيما يعرف بالورش والمصانع الصغيرة، سواء فى الحرف التقليدية أو الصناعات المغذية التى تحتاجها الكيانات الصناعية الكبيرة، فضلا عن التصنيع الزراعى.

فكما أن سعر الفائدة واحدة من آليات توجيه الاقتصاد بين الاستثمار والادخار، وقد بادرت البنوك المركزية بتحريكه عقب أزمة روسيا وأوكرانيا لمواجهة موجات التضخم الناجمة عنها، فمنظومة الضرائب لم تعد مجرد أحد مصادر الدخل السيادية ولم تعد ينظر اليها باعتبارها اداة جباية، ومن ثم فهى تستخدم لضبط توجه الاقتصاد، ولنا فى هذا تجربة كبيرة تبدت حين تم تأسيس المدن الصناعية فى نهاية سبعينيات القرن العشرين، بهدف بناء قاعدة صناعية حديثة، ونذكر أنها منحت إعفاءات ضريبية لمدة خمس سنوات كحافز وداعم للمصانع المقامة بها، ولعلنا نعيد التجربة مجددا ولكن باتجاه الصناعات الصغيرة والصناعات متناهية الصغر، باعتبارها الأولى بالرعاية، فى تواز مع مراجعة السياسة الضريبية والرسوم المتعلقة باستيراد المواد الخام ومستلزمات الإنتاج لها، وخلق كيانات تسويقية محترفة تطرق ابواب التصدير، وفق رؤية أكثر شمولا تنقلنا إلى اقتصاد قادر على تحقيق هدفى الاكتفاء الذاتى والمنافسة فى الاسواق العالمية، ويتطلب هذا تطوير وتحديث التعليم الفنى لتوفير العمالة المدربة، وامتصاص البطالة المقنعة، ولعلنا فى هذا ندرس تجارب النمور الآسيوية وفى مقدمتها التجربة الماليزية والهند والصين أيضا.
نقلا عن الأهرام