الأنبا موسى
تقديم: الإنسان دائمًا يحب الحرية، فالحرية هى طريق الإبداع!، وهى أم الإبداع، ولا إبداع بدون حرية، والانطلاق ظاهرة إنسانية قديمة، منذ بدء الخليقة.
الحرية تعنى حق الاختلاف مع الآخر فى فكره ورأيه، فبالانطلاق تحققت أفكار كثيرة مبدعة وخلاقة، غيرت وجه التاريخ.
أولاً: ما بين الحرية والقمع:
1- الحرية الفكرية أبدعت العلوم، وإنجازاتها، فهى التى اكتشفت أدق مكونات الذرة، وأعقد تكوينات الخلية، والكروموزومات، والجينوم الوراثى، وها نحن أمام إبداعات الليزر والطاقات الجديدة: الرياح، والشمس، والذرة، وليس فقط النفط!.
2- والحرية أبدعت الفكر والفلسفة، وهكذا غاص الإنسان فى أعماقه، وأعماق الكون والتاريخ، والتراث، وخرج لنا بأفكار جديدة عملاقة، لها تأثيرها فى حياة الإنسان، فى: السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا!.
3- الحرية أبدعت لنا الفنون المختلفة: كالمسرح والموسيقى والسينما والتليفزيون والفضائيات، والإنترنت وما سيستجد.
4- بل إن الحرية أبدعت لنا الخيال العلمى، الذى وصل بنا إلى الأقمار الصناعية، والتواصل المعلوماتى، وسفن الفضاء والروبوت.. إلخ. وحاليًا «النانوكوبتر»، وهى طائرة استخباراتية صغيرة بحجم علبة السجائر، وزنها حوالى بضعة جرامات، يمكن إرسالها إلى أى مكان لتُحضر لنا معلومات بكاميراتها المتميزة.
5- أما القمع.. فلا ينتج عنه سوى الركود، والإحباط والتخلف.. ولعل أكبر مثال على ذلك انهيار الستار الحديدى، فى الاتحاد السوفيتى، وما تلاه من نتائج خطيرة!.
6- لكن هناك خيط فاصل بين الأمرين: الحرية والقمع، أو الحرية والإحباط!، هذا الخط الفاصل هو «النظام».. تخيل أن هناك مدينة بدون نظام للمرور!، ماذا يكون شكل هذه المدينة؟.. الإجابات المتوقعة: حوادث، عدم احترام، فوضى.. هل تتمنى أن تعيش فى تلك المدينة التى فيها تتمتع بحرية زائفة؟.
7- إذًا لا بد من وجود النظام لكل شىء، حتى يصبح العالم منظمًا ومرتبًا، فالنظام يجعل الحرية لا تجنح إلى الفوضى المدمرة، والإحباط لا ينتهى إلى الدمار والتلاشى!.
8- وكل الفرق بيننا وبين الغرب هو فى أمرين هامين:
- الشرق: زعامة، والغرب: نظام (System)، - الشرق: قيود، والغرب: حريات.
9- من هنا نحتاج إلى الحرية والنظام معًا، والانطلاق والضوابط معًا.. والكون كله مبنى على هذه القاعدة.
ثانيًا: الحرية والضوابط معًا:
1- الكواكب تتحرك جميعها، ولكن فى نظام وفقًا لقواعد وضوابط غاية فى الدقة.
2- محور الأرض يميل نحو الشرق بدرجة معينة هى التى تخلق الفصول: الشتاء، والصيف، والربيع، والخريف. ولو ازداد هذا الميل قليلاً، تنتهى الأرض وننتهى معها.
3- جاذبية الأرض تجذب الغلاف الجوى، والأوكسجين، والحياة وجاذببة القمر ضعيفة جدًا، لذلك يخرج رواد الفضاء ويسبحون فيه فى حالة «انعدام وزن».
4- المريخ مشكلته أنه لا يكوّن غلافًا ولا أوكسجينا، مما يجعل رواد الفضاء يفكرون مع العلماء كيف يكون معهم مخزون أوكسجين، وهذا مستحيل غالبًا، أو أن يقوموا باستخراجه من صخور المريخ!!.
5- لا بد إذًا من حرية تعطينا إمكانية التفكير والإبداع، وضوابط تحفظنا من الضياع!، الحرية كالماء بالنسبة للسمكة الحية تسبح كيفما تشاء حتى ولو ضد التيار، لكن المهم أن لا تخرج من الماء وإلا تتعرض للموت.
6- والحرية أيضًا كالقضبان بالنسبة لقطار السكة الحديد، فالقطار لا يتحرك إلا فى حدود القضبان.
إن حدود الحرية هى بمثابة النور الذى يكشف للإنسان مواقع الخطر ليتجنبها، ومواطن الخير ليسلك فيها.
ثالثًا: تنظيم الحياة:
1- للحياة أولويات «Priorities» يجب أن تحظى بالاهتمام الأكبر، ولعل أولها «المَلَكُوت أو الأبدية»، كما قال السيد المسيح: «اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ» (متى 33:6)
2- ثم تأتى خطوط الحياة اليومية الرئيسية مثل: العشرة مع الله- العبادة- الدراسة- العمل- الأسرة- الصداقة- الهوايات.
3- ثم يأتى البرنامج اليومى والأسبوعى والشهرى والسنوى.. وذلك لوضع الخطط المناسبة لتحقيق هذه الأهداف.
4- ولكن «الالتزام» يبقى جوهريًا، فما قيمة برنامج بدون تنفيذ!.
5- والتنفيذ يحتاج إلى متابعة- ثم تقييم- ثم تعديل من آن لآخر.
هكذا يقول واضعو السياسات «Policy making»:
Define the problem& Needs) -1): تعرف على المشكلة واحتياجاتها.
Then the Goal) -2): حدد الهدف.
Then the strategy) -3): ضع الاستراتيجية.
Then the plan) -4): ارسم الخطة.
The projects of this plan) -5): تحديد مشروع الخطة.
The implementation) -6): التنفيذ.
The follow - Up and evaluation) -7): المتابعة والتقييم.
The modification when needed) -8): التعديل عند الحاجة إليه.
رابعًا: الكتاب المقدس والنظام:
1- مشورة يثرون لموسى النبى (خروج 18): عندما جلس موسى من الصباح حتى المساء يقضى للشعب، قال له يثرون حميّه: ما هذا الأمر الذى إنت صانع للشعب!، ما بالك جالسًا وحدك وجميع الشعب واقف من الصباح إلى المساء، سوف تكل والشعب أيضا، لأن هذا العمل أعظم منك، فإنك لا تستطيع أن تفعله وحدك، بل تقيم رؤساء ألوف، ورؤساء مئات، ورؤساء خماسين، ورؤساء عشرات، فيقضوا لهذا الشعب. ويكون أن الدعاوى الكبيرة يجيئون بها إليك، أما الصغيرة يقضون هم فيها، وخفف عن نفسك، فهم يحملون معك.. إن فعلت هذا الأمر تشعر أنت والشعب بالسلام.. فسمع موسى لكلام يثرون، وفعل كما قال.
2- كذلك فى معجزة إشباع الجموع من الخمس خبزات وسمكتين (متى 14)، أمر السيد المسيح تلاميذه بأن يتكئوهم خمسين خمسين، وبعد أن أكلوا وشبعوا، طلب أن تُجمع الكسر الفاضلة.
- ليت حياتنا تكون هادفة، ومتسمة بالنظام، والهدوء، والسلوك الحضارى، وتمزج بين الحرية المبدعة، والضوابط البناءة.. لربنا كل المجد إلى الأبد آمين.
نقلا عن المصري اليوم