فاطمة ناعوت
هذا رمضانُ الكريم يزورُنا فى ظلِّ موجة غلاء عالمية كاسحة؛ سببتها جائحة كورونا العالمية، وما ترتب عليها من تداعيات أدت إلى حالات من التضخم الاقتصادى الذى تنوء تحت ثِقَله أغنى بلاد العالم. ولا سبيل أمامنا كشعوب ناهضة لمقاومة الغلاء إلا بترشيد الاستهلاك والاستغناء عن كل ما ليس ضروريًّا يفيضُ عن الحاجة. فى أول رمضان زارنا فى عهد الرئيس السيسى، دُعيتُ إلى «إفطار الأسرة المصرية». وأنا فى الطريق إلى هناك، كنتُ أدعو الله أن تكون الوليمةُ الرئاسية بسيطة كما يليق بدولة تتعافى بعد ثورتين نالتا منها كل منال. ولم يخِب ظنّى الحَسَن. كانت المائدةُ غنيةً بتقشُّفها، أنيقة ببساطتها، كريمة بما تحملُ من قليلٍ يسدُّ رمقَ الصائمين ويُرطّب ظمأهم؛ فتأكدتُ أن يدًا حكيمة تُدير دفّة مصر. وتكررت تلك الفلسفةُ الرفيعة حينما دعانا الرئيسُ «عبد الفتاح السيسى»، نحن وفدَ الأدباء والكتّاب، إلى لقائه بالقصر الرئاسى بالاتحادية. جاءنا النادلُ وأخبرنا أن لكل منّا «مشروبًا واحدًا فقط»: شاى أو قهوة. التقت نظراتُنا وابتسمنا ابتسامةَ رضا؛ تحملُ الأملَ فى المستقبل.
منذ يومه الأول يقدّمُ لنا الرئيسُ السيسى رسائلَ عملية فى كيف ننهضُ بمصر إلى مصافِّ الدول الأولى. ومن بين تلك الرسائل الوعى فى الاستهلاك والكفّ عن الهدر. الهدرُ وعدم تنظيم الاستهلاك طامةٌ كبرى، إن أُضيفت إلى طامة عدم تنظيم الإنجاب، حُكِم على المجتمع بالسقوط.
تقول الإحصاءاتُ الدولية والمراقبون الاقتصاديون إن الدولَ الأكثرَ فقرًا هى ذاتُها الدولُ الأكثرُ هدرًا والأكثرُ إسرافًا فى الإنفاق على الطعام غير الصحى. بينما الدول الغنية لا تعرفُ تلك الثقافات الشكلانية المرضية. مَن سافر إلى دول أوروبا وأمريكا وغيرها من دول العالم المتحضر يعرفُ أن المواطن هناك يذهب إلى السوبر ماركت فيشترى احتياجاته التى يعرف أنه سوف يتناولها دون زيادة. عدد واحد ثمرة برتقال، عدد واحد عنقود عنب، عدد ٢ شريحة بطيخ، ثلاث ثمرات خوخ، دون أدنى خجل من نظرة الكاشير وماذا سيقول لنفسه عن ذلك «الُمقتّر»! لن يقولَ الكاشيرُ شيئًا، لأنه مثله ينتهج السلوك المحترم نفسه، ولا يشترى إلا ما يحتاج إليه، وفقط.
(عاوزين تسيطروا على الأسعار؟ الحاجة اللى تِغلا متشتروهاش. الموضوع بسيط.) هكذا أعلن الرئيس السيسى فى معرض حديثه عن غلاء الأسعار العام الماضى، موضحًا أن انخفاض الحركة الشرائية لسلعة ما- يستوجبُ بالضرورة انخفاض سعرها، وهو الحلُّ الأمثل لمواجهة جشَع بعض التجار. وهذا حقٌّ. لأن وراء كلّ تاجرٍ جشِع مُستهلكًا متواطئًا معه، مستعدًا لإشباع جشع التاجر بالشراء والاستهلاك والهدر. حقيقةٌ اقتصادية تاريخية وعالمية معروفة. كذلك تنظيمُ الإنجاب لا يمكن إغفاله ونحن نتكلم عن وطنٍ يُعادُ بناؤه من جديد على أسس سليمة وإنهاض حقيقى وتصحيح مسار فى مجالات الصحة والتعليم والطاقة وإعمار البنية التحتية وبناء مدن جديدة كاملة لسكان العشوائيات وغيرها من مجالات التنمية الحقيقية التى نشهدها بعيوننا كل يوم منذ سنوات، بعدما قضينا والحمد لله على غول الإرهاب الذى كان يضربُ مصر فى جميع ربوعها منذ أسقطنا الإخوان الإرهابيين عام ٢٠١٣.
عام ٢٠١٥ أطلقت وزارة التموين بالتعاون مع القوات المسلحة مبادرة حضارية لتوفير وجبات مدعومة، بسعر رمزى، تتكون من اللحوم والدجاج والخضر والأرز ومكونات السلاطة تكفى أسرة من أربعة أفراد. وكانت تلك المبادرة «رسالة وعى» أخرى يقدمها لنا الرئيس السيسى فى بداية حكمة. راقت لى الفكرةُ كثيرًا ليس فقط لأنها تساعد البسطاء على الحياة الكريمة، وليس فقط لأن المبادرة تقدم وجبة بها كافة ما يحتاج إليه الجسمُ البشرى من غذاء صحى يحوى البروتين والڤيتامين والنشويات بالنسب الصحية التى لا تضرُّ البدن، وليس فقط لأن تلك المبادرة الحكومية كانت بمثابة سيفٍ حاد مسلّط على أعناق التجار الجشعين الذين يثرون من سحق البسطاء ببيع السلعة بضعف ثمنها بقانون العرض والطلب الذى يتحكمون فيه، بل لأن تلك المبادرة سرّبت للمواطن المصرى ثقافة التدبر والاقتصاد والتعقّل وشراء ما يحتاج إليه، وفقط. وكنتُ أُمنّى نفسى أن شيئًا فشيئًا سوف نتدرب على مكافحة غريزة الهدر المتجذّرة فينا بحكم التقليد الموروث.
فلسفةُ الترشيد فى الإنفاق والتدبّر فى المأكل والمشرب والملبس، هى ثقافةُ شعوب تقرر النهوض بحلِّ المشاكل من جذورها، بهدوء ووعى ودون شكوى ودون تبرّم. إنها ثقافة «الاستغناء» حين يعمُّ «الغلاءُ»، وثقافة «عدم الهَدر» حين تضيقُ ذاتُ اليد. قاوموا الغلاء بالاستغناء. وقاتلوا الجشعَ بالوعى الرفيع بقيمة المنح السماوية المُهداة لنا، وعدم إهانتها بالهدر. رمضان كريم والهدرُ بالتأكيد غيرُ كريم
نقلا عن المصري اليوم