سحر الجعارة
كنت محظوظة لأكثر من مرة، حين منحنى المولى عز وجل فرصة أداء فريضة الحج مرتين، وهى تجربة «ملهمة» بالمعنى الحرفى للكلمة، رغم ما فيها من مشقة بدنية، إلا أنك لا تتذكر منها إلا الحالة الروحية التى عشتها.. وغالباً تكون الأكثر حظاً إذا تيسر أن يكون محل إقامتك بالقرب من الحرمين الشريفين.. أما إن كنت تسكن بعيداً فسوف تشعر بشدة الزحام ليلة الصعود لمسجد عرفة، لدرجة تشعر معها أن الأرض افتُرشت بالمصلين (حجاج الداخل من المقيمين).. سوف تسمع ساعتها عبارة «كل مكة حرم»، صلّ فى أى مكان قريب!. ساعتها سوف تتساءل كيف أصلى فى أى مكان دون أن أسمع الأذان من الكعبة، بل سمعته من التليفزيون؟.. ستُفاجأ بأن البلدة القديمة لمكة، والمدينة قد دخلت بالكامل فى توسعة الحرمين الشريفين.. لتدرك أن إيمانك الداخلى لا علاقة له بالصوت، ولا يمنعه الضجيج والزحام: أنت تتّصل بالله عز وجل بلا وسيط.. وهو «السميع العليم».

هذه المقدمة من تجربتى الإنسانية من واقع اللحظة التى يتجمع فيها ملايين المسلمين عند «قبلة المسلمين».. أما إن شئت الخبر، فاقرأ على صفحات جريدة «الوطن» بتاريخ 10 أكتوبر 2021: (فى تجربة جديدة يشهدها مسجد الحسين لأول مرة، تم تفعيل الأذان الموحد داخل أروقة المسجد العريق، لينضم إلى قائمة المساجد التى حدّدتها وزارة الأوقاف، التى تعمل ضمن مشروع الأذان الموحد، إذ أعلنت الوزارة منذ أيام عن ضم 426 مسجداً جديداً للمشروع، ليصل إجمالى المساجد التى شهدت تشغيل وتفعيل وحدات الأذان الموحد بها على صعيد مساجد القاهرة الكبرى إلى 3538 مسجداً).. هل تم استكمال هذا المشروع ولم تسمع به من إصابتك بالتلوث السمعى؟.. ربما.

أنا شخصياً أسكن فى طابق مرتفع جداً، وفى مواجهة مسكنى تقريباً 4 مكبرات صوت، يختلط فيها ترديد الأذان، لدرجة أنك لا تسمع إلا «صوتك الداخلى» ينظم الأذان (!!).. وحسب الدكتور «عبدالله حسن»، المتحدث الرسمى لوزارة الأوقاف، فإنه قال: لن يتم بث صلاة التراويح خلال مكبرات الصوت الخارجية، موضحاً أن السماح بالمكبرات فى المساجد التى بها ساحات خارجية يرجع إلى تقييم «مدير المديرية فى كل محافظة»، لعدم إزعاج أحد الجيران، مشيراً إلى أن هذا الأمر له ضوابط).. وعلى أرض الواقع لن تجد أى ضوابط، فصلاة الفجر نفسها مذاعة فى مكبرات الصوت!!.

قبل أن تشمر عن ساعديك لترمينى بالكفر والزندقة والإلحاد والعلمانية.. إلخ قاموس البذاءة استمع إلى «محمد متولى الشعراوى»، فى فيديو لم يتخطَّ الدقيقة والنصف، انتقد فيه «الشعراوى» استغلال بعض الأشخاص لـ«ميكروفونات» المساجد قبل ساعة كاملة من صلاة الفجر، وقال: اسمها «غوغائية تدين»، باطلة، قاعد نايم طول النهار، طالع قبل الفجر بساعة يهبهب، وناس مريضة، وناس عاوزة تنام». ووصف الميكروفون بأنه «أكبر نقمة مُنيت بها الأمة فى العصر الحديث»، وأنه «سيتسبب فى إصابة الناس بالصمم».. وأكد «الشعراوى» أن بعض البائعين يستخدمون مكبرات الصوت لتشغيل القرآن بمتاجرهم دون أن يركزوا فى التلاوة، متجاهلين الآية القرآنية: «إذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا»، وهذا دليل على أن ذلك التصرّف ليس لله فى شىء!

وكأنه لم يتبق على هذا الكوكب غير التيار السلفى فى مصر، بكل أطيافه، الذى يهب لرفض تخفيض أصوات مكبرات الصوت.. ويحارب بكل ما لديه من أذرع رسمية أو سياسية أو منابر فى أنحاء البلاد لمناهضة تجديد الخطاب الدينى ومطاردة المجدّدين.. نحن فقط من نصر على «غوغائية التديّن» كما سمّاها «الشعراوى» والسير فى قطعان المجاذيب.. لن يكف تيار الإسلام السياسى على الاتجار بالدين، وتأليه البشر، وخلط الحلال بالحرام: إنهم الأعلى صوتاً.. ألم نترك الميكروفون معهم؟!
نقلا عن الوطن