القمص أثناسيوس فهمي جورج
يوم جمعة ختام الصوم الكبير... هو آخر يوم في رحلة الصوم؛ ليبدأ بعد ذلك أسبوع الآلام الفصحية؛ ابتداءًا من سبت لعازر، وتتركز عبادة اليوم حول افتقاد الملك ووعده بخلاص البشرية؛ ومجازاته لأبرار شعبه ودينونته للأشرار؛ حسب تدابيره الأزلية؛ عندما تأتي الأيام الأخيرة وأزمنة الشر الصعبة التي تتبعها الدينونة؛ والتي سيتم فيها قضاء الاستقامة وفقًا لثمر وعمل كل أحد.
واليوم يخاطب المسيح أورشليم (أورشليم أورشليم... كم مرة أردتُ أن أجمع أولادك... ولم تريدوا). نادى عليها بمناداة التثنية كما نادى (مرثا مرثا)، (شاول شاول)، (سمعان سمعان) وهو نفس ندائه لكل نفس بإسمها؛ وبنغمة الحب الإلهي والإلحاح؛ حتى تقتني خلاصها ولا تضيع فرصتها الأبدية... ينادي لكل أورشليم كي تعود عن غيّها وشرها وعنادها؛ وكي تتوب وترجع إليه. إنه يتودد ويتقرب ويقرع كي نُقبل إليه ونفتح له... إنه جاء ليجمع المتفرقين إلى واحد... يذكّرنا بسر مشيئته ودينونته الحتمية؛ فكم مرة يريد أن يجمعنا!!! يبسط يديه طول النهار من نحونا على عود الصليب، يريد أن يضمنا ويحفظنا من الأعداء الخفيين والظاهرين... أن يضمنا من وجه الشر؛ هاربين من الفساد الذي في العالم؛ فلا نشرب كأس النقمة والخراب... إنه يريد أن يسقينا كأس المصالحة مع أبيه الصالح، ويرفع رؤوسنا كي ننظر ما هو فوق حيث هو جالس؛ مصالحًا العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم، وواضعًا فينا كلمة المصالحة.
وعلى عتبة أسبوع الآلام رتبت الكنيسة في عباداتها وقراءاتها هذه السُلُّمة والدرجة لتنقلنا من نهاية تعقُبها بداية؛ من رحلة الصوم إلى رحلة الآلام ودخول أورشليم؛ حتى لا نكون نحن ضمن أورشليم التي تُركت دارها خرابًا؛ ففي ابتعادها نادي عليها فيما يسمي ب ( مرثية اورشليم ) بعد أن رفضت مسيحنا ورذلته، و بعد أن خانت الأمانة والمودّة معه؛ بينما هو جاء من أجل خلاصها وخلاص وشفاء العالم كله... إرادته هي قداستنا، لكنه لا يتجاوزنا ولا يقهرنا؛ لكنه يريد أن الجميع يخلُصون وإلى معرفة الحق يُقبلون. لا يريد أن يتركنا ما لم نُرِد نحن ذلك، يفتش علينا بين الأحجار والأشواك؛ لينجينا ويحملنا على منكبيه. فهل ستوافق إرادتنا إرادته؟! تلك هي بداية زمن الفصح.
في أسبوع آلامه الفصحية؛ إنما هذا الأسبوع هو أسبوع فدائنا نحن؛ وخلاصنا نحن... فقد صار لي أنا خلاصًا مقدسًا، إرادتي أنا تتوافق مع إرادته، هو مخلص نفسي الشخصي؛ وهو في الوقت عينه مخلص الجميع. فكل أورشليم ترفض دعوته وتهجره؛ هي التي تقطع نفسها بنفسها؛ وتصير هي علة هلاكها... إنه اليوم يبكي على أورشليم، ويبكي على كل متهاون وكل رافض وكل متجاسر وكل فريسي يعلَم ولا يعمل... إذ بعد أن عرفنا أسرار الحق وكلمات الإنجيل وطعام الحياة؛ كيف نعود ونخطئ؟! كيف نعود وننكره؟! كيف نعود ونتنصّل له؟! كيف نعود خاليي الوفاض؟! بينما مسيحنا يطلب الثمر ويريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يُقبلون، يمنحنا رحمته ومعونته ونصرته في جبل التجربة، ويقبلنا مع كل ابن ضال وسامرية، ويشفي ارتدادنا وأسقامنا الروحية مع كل مُخلع ومولود أعمى... لكننا إذا رفضناه سنُدان بقانونه المقدس، وينزع منا عضوية بيته الروحية.
وخلال العبادة الصومية نكتشف الجمال الليتورچي؛ عندما نتأمل ونتمعن ونفهم الخشوع الصوتي واللحني الذي يستحضر حواسنا في سكينة فتيّة؛ تجعلنا وكأن الكنيسة بيت تجميل؛ تتجمل فيها أورشليمنا الداخلية (قلوبنا) لتستقبل المسيح؛ فاديًا ومخلصًا عبر هذا الأسبوع؛ وقد صار لها خلاصًا مقدسًا. وفي إبداع العبادة لهذا اليوم؛ يشبّه المسيح نفسه بالدجاجة التي تحتضن صغارها وتنسكب عليهم... فتضعُف ويسقط ريشها؛ لأنه نزل إلى هبوطنا ليرفعنا إلى علوه. وسُمر على الخشبة ليمزق صك خطايانا ويقتل بها الخطية، ويُحيي موتنا بموته، ويقتل أوجاعنا بآلامه الشافية المُحيية، وبالمسامير التي سُمر بها. وهنا نلمس الحضور الإلهي وسط الجمال جمال العبادة؛ ومسيحنا يضمنا تحت جناحيه؛ وهذا هو المعنى الأصيل لليتورچية؛ نتوحد ونتجمع؛ لا أن نتشرذم؛ لأنه جاء ليجمع الكل تحت ستر جناحيه... اما الذين رفضوه ورذلوه فقد انضموا لأولئك الذين (طعنوه أيضًا)؛ عروا صدره وطعنوه، فردوا ذراعيه وسمروها، وكللوا جبينه بالأشواك، بصقوا عليه وجلدوه، ورجلاه اللتان تجولتا تصنعان خيرًا دقوهما بالمسامير، جازوه عن الخير شرًا، وتركوه مثل ميت مرذول... إنه جرس إنذار وإيقاظ لجميعنا في بداية البصخة المقدسة؛ كي نتأهل ونستعد ونثبّت وجوهنا إلى أورشليم العليا أمنا جميعًا. صائمين لكننا نتغذى بخبز تسبحة الآلام التي تتحول إلى شهد العسل؛ وسط ألحان وعبادة الكنيسة؛ وينظر كل واحد منا إلى أورشليمه القلبية؛ لأن مخلصنا الصالح بكىَ عليها لكي يكفف كل الدموع، ولكي يمنحنا سكينة حضوره الإلهي؛ وسط سكيب روحانية العبادة المنسوجة من قماشة الإنجيل المقدس.
إنه يدعونا للانجماع الكلي فيه؛ ليوحدنا ويقدسنا ويصبغ علينا بركات تدبيره الخلاصي المجاني... كل من يتأخر أو يساوم؛ أو يتعذر أو يؤجل إنما يوخز جسده بالخطية؛ بل ويصلبه لنفسه مرة ثانية!!! إن دعوته تتجدد لنا في أسبوع الآلام هذا؛ وفي هذه السنة؛ لأن الوقت وقت مقبول؛ واليوم يوم خلاص... الجناحان الحانيان مفرودان لكل من يتوب ويرجع، والجنب المُفاض يسيل دمًا وماءًا للشفاء والفداء والغفران الأبدي؛ لأنه يُعطىَ عنا خلاصًا وغفرانًا للخطايا، وحياة أبدية لمن يتناول منه.
إن مسيحنا المتألم ينادي على كل نفس جاهلة ومعاندة؛ حتى لا يقتنصها العدو المحتال؛ يريد أن يضمها إلى أن يعبر الشر ولا يهلكها المُهلك: فكم مرة أردتُ وأنت لم تُرِد؟! فيا لندامة من يزدري بإرادة ربنا القدوس!! ويا لخسارة من يسوِّف العمر باطلاً ويدوس على دم العهد!! ويا لجهالة من تمر به السنون في التزييف والمراوغة!! فهل عرفنا زمان افتقادنا؟! – إنه صوت يأتينا اليوم مجددًا. والمسيح في ختام صومنا يسألنا؛ هل نريد كما هو أراد لنا!! هل تتوحد مشيئتنا مع مشيئته؟! فتتجدد مشئيتنا من عتقها إلى جدة المشيئة الإلهية الواهبة حياة أبدية؛ مشيئة واحدة متوافقة؛ نتوحد به بالإيمان والمشيئة ويوصلنا هو بمشئيته الطاهرة. هل نريده نصيبنا؟! إذا اخترناه نقول له (قالت نفسي: نصيبي هو الرب؛ فلذلك أرجوه) عندئذ يُسمعنا هو صوته المُفرح (ادخل إلى فرح سيدك).