عاطف بشاي
يبدو أن هناك تغيرًا محمودًا فى توجهات ومحتوى ومستوى المسلسلات الدرامية الرمضانية.. ولعل أهمه من وجهة نظرى انحسار تلك الآفة البغيضة المسماة «ورش السيناريو»، التى اقتصر الأمر على القليل منها هذا العام.. وقد سبق أن طالبنا مرارًا وتكرارًا بالتصدى لانتشارها وتفَشِّيها المعيب، والذى تحول بموجبها فن كتابة السيناريو إلى مجرد صنعة يمكن تعلمها وليس فنًّا راقيًا يعتمد على الموهبة والثقافة شأن الفنون الأخرى مثل الشعر والرواية والقصة القصيرة والفن التشكيلى والموسيقى والنحت.. إلخ، التى تعتمد على الخيال والإبداع الفردى لأن الكاتب ليس مجرد «مُعِدّ» أو «مترجم» أو ناقل لرؤية آخر.. إنما هو مبدع خلاق.. صاحب رؤية ووجهة نظر وأيديولوجيا فكرية وخبرات اجتماعية وثقافة موسوعية وطريقة فريدة خاصة به فى رسم الشخصيات الدرامية بأبعادها المختلفة الاجتماعية والنفسية والإنسانية.. وتأليف الأحداث وإنشاء الصراع وصياغة أفكاره وأحلامه وتصوراته، وله ذائقة خاصة فى التعبير والطرح وأسلوب مميز لا يشبه غيره وحواره الدرامى، الذى تختلف مفرداته ولغته وبلاغته وبيانه وبديعه عن إبداع فنان آخر.
وبذلك يصبح السيناريست ضميرًا للمتلقى مؤثرًا فى إثراء عقله ووجدانه وروحه ومعبرًا عن واقعه المعيش متماهيًا مع رسالته المقدسة وراعيًا لها فى تبنى قضاياه ودافعًا لأحلامه فى متعة بصرية.
أما نظام الورش فيقوده أسطى مشرف على مجموعة من الصبيان متنافرى الاتجاهات والميول والأفكار، ولا يتمتعون بثقافة أو دراسة أكاديمية لفن كتابة السيناريو.. ويطلب من صبى منهم أن يرسم خطًّا للبطل، وثانٍ يفكر فى حدوتة خاصة بالبطلة، وثالث للشخصيات الثانوية، ورابع لصنفرة الحوار الدائر بينهم وترصيعه ببعض الإفيهات الضاحكة فى حالة النص الكوميدى.. أى أن الميكانيكى يكمل عمله ميكانيكى آخر، والصبى بمرور الوقت يصبح أسطى يمارس سلطته كمطوع يفرض إرادته ووصايته ويوجه تعليماته إلى الصبيان بنسف حرية التعبير وتنفيذ أحكام الرقابة القاطعة والحرص فى الوقت نفسه على استلهام لغة الشارع المُسِفّة، متصورًا أن النجاح الجماهيرى وعبقرية الفن يكمنان فى مجاراة الواقع بنقله بحذافيره المُنْحَطّة وتحقيق رسالته السامية فى تدمير اللغة العربية الجميلة والسعى لإلغاء الهوية.. ويحصد الأسطى فى النهاية السبوبة المفتخرة، ويوزع الفتات منها على الصبيان.
ثانية الحسنات فى الدراما الرمضانية لهذا العام ذلك المستوى الرفيع فى التطور الإبداعى الرائع فى فن الإخراج، الذى يجسَّد تجسيدًا بديعًا فى مسلسل «المشوار»، الدى يقوم ببطولته «محمد رمضان»، تأليف «محمد فريد» وإخراج «محمد ياسين» برؤية مرئية لمدير التصوير «عبدالسلام موسى».
يعود محمد ياسين بعد غياب ليؤكد من جديد أنه درة ثمينة من درر الإخراج البديعة والمتفردة فى صفحات «الفن السابع»، الذى يحقق رؤية مرئية خلّابة لواقع يُعيد صياغته ويبنى عالمه ويرصد تفاصيله بالغة التأثير والإيحاء والدلالة ويصنع إيقاعه الجميل المتمهل ويرسم شخصياته بأبعادهم الاجتماعية والنفسية والإنسانية بعمق تتضافر من خلاله عناصر التراجيديا الكلاسيكية الرصينة، التى تحقق بجلاء وبراعة عاطفتى الخوف والشفقة وتوحّد المتلقى بالشخصية الدرامية توحُّدًا كاملًا يُحفزه على استكمال رحلته مع بطله متطلعًا إلى مصيره المحتوم.
والحقيقة أن معالجة محمد ياسين بمفرداته التعبيرية وأدواته الفنية البراقة، بما تشمله من أحجام اللقطات وتكوين الكادر وحركة الكاميرا والإضاءة والأداء، الذى لا يحتفى بتجسيد الواقع تجسيدًا مغاليًا، استطاع بها أن يقود بطله، ومن ثَمَّ يقود الدراما إلى قراءة مختلفة عن فخ الميلودراما، الذى غرق فيه «رمضان» فى مسلسلاته السابقة، وآخرها مسلسل البرنس.
إن المخرج هنا لا يحاكم شخصياته ولا يدينها ولا يسعى إلى هدايتها أو تقويمها ولا يتطوع بإهدائها عصير الحكمة ولا يُقيِّمها ولا يضعها فى ميزان الحسنات والسيئات ولا يلوى عنقها ليحدد مصيرها.. ولا يلفظها ولا يناصبها العداء ولا يخاطبها من فوق منبر الهداية والصلاح لتنبذ الحرام ويزين لها الحلال.
كل ما نتمناه ونهفو إليه أن تبحر سفينة البطل عبر رحلتها المضنية التى تتجاور فيها سماء تصفو ونجوم تختنق وأمواج عاتية تحمل فى أعماقها أصدافًا وحصى وحجارة.. سادرة فى غَيّها.. تمضى إلى حال سبيلها تصنع مستقبلها وتحدد مصيرها.
كما نتمنى أن يسدل «رمضان» بهذا المسلسل الستار على دراما العنف، الذى يستخدم فيه الأسلحة النارية والسنج والمطاوى والأحداث الدامية والجرائم البشعة وميلودراميات البلطجة وتحقيق الأمن الشخصى بمعزل عن القانون سعيًا وراء الانتقام الفردى.
نقلا عن المصرى اليوم