أدلى الإمام الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر بحديث مطول إلى جريدة صوت الأزهر، تناول فيه بعضًا من أسس العلاقات بين المسلمين والمسيحيين، وبدا فيه متأثرًا ببعض الأحداث التى وقعت الأسابيع الماضية، وأثارت غبارًا كثيفًا على مواقع التواصل الاجتماعي. ورغم أن بعض الآراء التى وردت على لسان الإمام الأكبر سبق أن أدلى بها فى مناسبات سابقة، إلا أن الحديث فى مجمله اتسم بالشمول، والجرأة، والحسم. أعرف جيدًا عن الدكتور أحمد الطيب إنه يُفضل الايجاز فى الحديث، وينأى بنفسه عن الخوض فى مساجلات غير بناءة. وأتذكر أنه أثناء مداولات لجنة إعداد وثيقة الأزهر 2012، التى شرفت بأن أكون عضوًا بها، سألته عن الدولة الدينية، التى كانت الفصائل الإسلامية تروج لها وقتئذ تحت مسمى الدولة المدنية، وهو نفس المصطلح الذى كانت تستخدمه أيضًا القوى السياسية المدنية، ولكن كان لكل طرف إدراك مختلف له. كان الإمام الطيب حاسمًا فى رده، عندما أكد أن الإسلام لا يعرف نموذج دولة الكهنوت الإسلامى الذى تروج له هذه الفصائل، وإن الدولة التى تقطنها غالبية مسلمة، ويعيش إلى جوارها مختلفون فى المعتقد الديني، تستند إلى المواطنة، والديمقراطية، والحقوق والحريات العامة.
 
فى حديثه لــ صوت الأزهر، أكد الإمام الأكبر عدة أسس منها: أن الإسلام ينظر لغير المسلمين من المسيحيين واليهود من منظور المودة والأخوة الإنسانية، وإن المواطنة لا تتوقف عند اختلاف دين أو اختلاف مذهب، فالكل متساوون فى الحقوق والواجبات.
 
وقد وضع الإمام الطيب- بهذه الكلمات الموجزة- أسس العلاقات بين المسلمين والمسيحيين، والتى تقوم على المواطنة، بمعنى المساواة فى الحقوق والواجبات، وهى أساس بناء الدولة الحديثة، وإلى جانبها تأتى المودة والأخوة الإنسانية مجالا رحبًا يجمع المتدينين، الذين يُصقلون المواطنة التى تجمعهم برباط أخوي، ويُضفون على المساواة القانونية بينهم طابعًا إنسانيًا ووجدانيًا.
 
وعندما نتفق على جوهر القضايا، يصبح من اليسير الاتفاق على التفاصيل. هذا ما فعله الإمام الأكبر فى حديثه، فقد أرسى العلاقات بين المسلمين والمسيحيين على أساس المواطنة والمودة، وبالتالى فإن حق المواطنين كافة فى ممارسة شعائرهم الدينية، وحماية خصوصياتهم يُصبح أمرًا مفروغًا منه طالما أنهم متساوون، لا فرق بينهم بسبب الدين أو المعتقد، ولا مجال لولاية تمارسها جماعة من المواطنين على أخرى، لأن كليهما مواطنون، يخضعون لحكم الدستور والقانون.
 
ويذهب الإمام أحمد الطيب إلى أن التضييق على المسيحيين فى بناء الكنائس ليس من الإسلام، بل يعود إلى عادات وتقاليد قديمة، لم يأت بها القرآن أو السنة النبوية، وكذلك التضييق عليهم فى مأكلهم أو مشربهم بنهار رمضان بدعوى الصيام سخف لا يليق، ولا يمت للإسلام بصلة. وأضاف: إن تحريم تهنئة المسيحيين بأعيادهم أو النهى عن أكل طعامهم أو مواساتهم فى الشدائد، ومشاركتهم فى أوقات الفرحة يعبر عن فكر متشدد لا يمت للإسلام بصلة. وهنا يركز شيخ الأزهر على قضية أساسية، ذكرها فى حديثه بذكاء وحسم، عندما أرجع التشدد إلى الفكر الوافد على مصر منذ سبعينيات القرن العشرين، والذى سماه اختراق، ويسعى أصحابه إلى نشر مذاهب يريدون من خلالها تحويل المسلمين إلى ما يمكن تسميته شكليات فارغة من جوهر الإسلام الحقيقى حسب تعبيره. هنا نتوقف أمام الإشكالية المحورية التى نعانيها على مدار عقود، والتى تتمثل فى هبوب رياح الفكر المتشدد على المجتمع، والذى يجافى الفقه المصرى الرحب، كما عرفناه فى كتابات الدكتور محمود شلتوت، والدكتور عبد المتعال الصعيدي، والشيخ مصطفى عبد الرازق، وآخرين. وبالتالى لا نستغرب من الانتقادات التى سددها مريدو الإسلام السياسى لحديث الإمام الأكبر، لأنه انتصر - كما يفعل دائمًا- للفقه المصري، ونزع أى غطاء دينى عن آراء التعصب والتشدد الفقهى التى يرددونها، وأفسدوا بها عقول قطاعات من المجتمع على مدار أكثر من نصف قرن، بحيث يضيق المجال عن سردها، وكانت أكبر خطيئة فى السابق هى عدم التصدى لها ببأس وعلم، مثلما يحدث الآن، حتى يتبين المواطن المصرى ما حدث من تخريب فكري، وثقافي، ووجداني، وإنسانى للمجتمع بأسره على أيدى قوى التطرف، وستظل المواجهة الموسمية فى صالح هذه القوى الظلامية، أما المواجهة الدائمة الجسورة المُؤسسة على العلم الدينى الصحيح فهى تعزز المواطنة والاستنارة والتقدم.
نقلا عن الأهرام