باهر عادل
المقال 1 من 1 في سلسلة: اﻷقباط والحداثة
يرى الكثير من رجال الدين الأقباط أن الزواج في المسيحية لا يتم إلا في الكنيسة، بل ولا يصح إلا إذا كان على يد كاهن "قبطي"، وما هو غير ذلك يُعتبر زنا! ويكرر الكثيرون -ومنهم أساقفة- جملة شهيرة وهي: "أن الزواج المدني زنا"… يا للهول!!

وهذا الكلام عقيم ويدل على ضيق الأفق، وعدم فهم لطبيعة الزواج بل طبيعة المسيحية أيضا، فهم يرون حَسَبَ هذا الرأي -إن جاز التعبير- أن العالم كله يعيش في زنا ما عدا “الكام مليون” قبطي من أتباعهم! وهذا كلام لا ينطق به إلا خريجو عنبر العقلاء “مع احترامنا لكل صاحب مرض”. بل ويدعي بعض الكذابين والمُدعين أن من ينادي بالزواج المدني يريد أن يلغي الزواج الكنسي، وهم يروجون لذلك، إما عن عدم فهم، أو عن خبث، ولحشد أتباع من الجهلاء؛ والبسطاء، وعديمي المعرفة.

ويبرر أوصياء الدين موقفهم هذا بأن الزواج في المسيحية “سر كنسي”، ونحن لا نختلف معهم في ذلك، ونقر ونقرر أن الزواج في المسيحية “سرّ مُقدس” لا خلاف ولا جدال في ذلك، ولكن لابد من تحديد معنى ومفهوم السر، فالسر الكنسي ليس شيئا غامضا غير مفهوم، ولا هو سحر يقوم به رجل دين مشعوذ، ولا هو حجاب من بقايا خرافات الماضي؛ ولا من مًخلفات أساطير الأولين، بل أن السر الكنسي وحسب تعريف القديس أغسطينوس “ما لم ينته الإنسان من فهمه/إدراكه!”، بل وأن مؤسس السر هو الله في بداية الخليقة، وليس رجل الدين، فالزواج ناموس طبيعي، أي أنه فعل مغروس في الطبيعة الإنسانية، وفعل مُقدس أساسًا في ذاته، أي إن الله خلق الإنسان (ذكرًا وأنثى) وقدس الزواج منذ البَدْء.

“لِذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا”
(سفر التكوين 2: 24)

ومما لا يحتاج إلى دليل أن هذا الزواج كان يتم دون رجال دين، حتى دون أوراق مدنية، فلابد أن يفهم هؤلاء أن قدسية الزواج لا يتم تحديدها طبقًا لعقود مدنية أو دينية أصلاً. فمن الذي زوَّج آدم وحواء؟! أو أبناء أدم وحواء؟ فمنذ بَدْء الخليقة والزواج مُقدس، بلا أوراق وبلا رجال دين. و بالعودة إلى الإصحاحات الأولى في سفر التكوين نجد أن “مؤسسة الزواج” سابقة على “المؤسسة الدينية”، أي إن البشر يتزوجون قبل حتى ظهور الشرائع المكتوبة والمؤسسات الدينية الرسمية، وتأسيسًا على ذلك فظهور الأوراق القانونية يعتبر فعلًا اجتماعيًا تنظيميًا ليس إلا، وذلك لتنظيم المجتمع، وتكوين أسر مستقرة؛ والحفاظ على حقوق النساء، وعدم اختلاط الأنساب، وحماية الأطفال الخارجين إلى الحياة والحفاظ على حياة كريمة لهم -وهذا غرض طيب، ومقصد شريف، وهدف نبيل، ونية تُحترم- بشرط ألا يُتخذ هذا ذريعة لتكبيل الأفراد؛ وكبت الحريات الفردية، والتلاعب والتحكم في مصير البشر باسم المُقدس الديني!

فالمفهوم الكنسي الصحيح أن الأصل هو الزواج المدني، ولكن هذا الزواج المدني ينتهي مفعوله بموت الزوجين. ثم يأتي سر الزيجة المقدس كإكليل للزواج المدني المَيْت/ الجسدي/ الحياتي/ الدنيوي، لكي يأتي السر الكنسي، لكى يظل الزواج أبديًا حتى بعد موت الزوجين جسديًا، وهكذا يصيران أحياءً كملائكة الله في السماء، كما قال السيد المسيح (إنجيل متي 22: 30). أي إن السرّ نعمة إلهية، وليست فريضة دينية، فالمسيحية ليست ديانة فرائض وشرائع ونواميس جامدة!

وما يستحق لفت الانتباه له، هو أن السيد المسيح لم يُزوج أحداً طوال حياته على الأرض بالجسد  -وهو في العهد الجديد “الكاهن الأعظم”- ولم يأت الذكر على أن التلاميذ أو الرسل مارسوا هذا الفعل، فلم نسمع أنهم كانوا يقيمون أي زيجات! وكان الزواج في بداية التاريخ المسيحي مدنيًا بمباركة الأسقف، وكان المسيحيون في كل أنحاء العالم يخضعون للقوانين المدنية التي تخص بلادهم.

“وحتي القرن الخامس لم يكن هُناك طقس كنسي خاص بالزواج، وبمرور الوقت، تحديدًا في القرن العاشر، نالت الكنيسة من الأباطرة [القانون الروماني وقتذاك] الاحتكار القانوني والتشريعي لتسجيل الزيجات وتوثيقها”

(جون مايندورف، كتاب “الزواج من منظور أرثوذكسي”، الصفحة 80)

وهنا تحول الزواج المدني إلى زواج ديني، ظل هكذا حتى الآن، وفكرة أن الزواج لا يصح إلا في الكنيسة فقط هي فكرة ناتجة عن جهل بتاريخ الفكر اللاهوتي وجهل بالتاريخ الكنسي والتفكير على طريقة “هذا ما وجدنا عليه آباءنا”!، ومن جهة أخرى تم تحديد وتقنين “أسرار الكنيسة السبعة” داخل الكنيسة القبطية في كتاب “أسرار الكنيسة السبعة” للأرشيدياكون حبيب جرجس في أوائل القرن العشرين الذي نُقل عن الغرب الكاثوليكي! حيث إن أول مرة يتم تقنين الأسرار إلى سبعة أسرار فقط كان مجمع تريندت الكاثوليكي في القرن السادس عشر. في مواجهة الإصلاح البروتستانتي في الغرب.

جدير بالذكر أن هناك ثلاثة أنواع رئيسية للدول في العالم:
– دول عَلمانية: باختصار هي دول تقوم على احترام القانون والدستور المدني ولا تفرق بين أي من مواطنيها. مثل فرنسا وأمريكا و السويد. مع اختلاف درجة العَلمانية بداخل كل دولة حسب ثقافة المجتمع.
– دول دينية: مثل الفاتيكان وإيران وأفغانستان والسودان.
– دول مختلطة أو انتقالية: وهي تخلط بين القوانين المدنية/ العصرية، والقوانين الدينية.

وللأسف مصر ما زالت دولة انتقالية (شبه دولة)، وعلينا الآن أن نختار إما أن ننحاز للحداثة والحرية وقيم العصر، أو للجهل وقيم الماضي والتخلف والجمود وقيم العبودية. فالدولة المدنية الحديثة تحترم القانون، والأصل فيها هو احترام القانون وأن كل المواطنين متساويين أمام القانون بصرف النظر عن الدين أو العقيدة أو العرق أو الجنس أو اللون ! وتنشأ قوانين الزواج -كباقي القوانين- موحدة لكل مواطنيها، ومن يريد أن يُطبق على نفسه تعاليم دينه فالدولة لا تقف أمامه فليذهب ويصلي في كنيسته -أو أي دور عبادة- ويمارس ما يؤمن به كيفما يشاء!

الزواج المدني أو الكنسي اختيار شخصي، وليس من حق أي جهة سواء سياسية أو دينية أن تفرض وصيتها على خلق الله ! فكل شخص حر أن يختار حسب قناعته الشخصية، وإيمانه الشخصي، وليس من حق أي شخص أن يتدخل في حياة البشر باسم الفضيلة، أو العقيدة الدينية. فيمكن لشخص أن يولد مسيحيا أو بالأحرى لأسرة مسيحية وبعد مدة يصبح لا أدري أو ملحدا، فلماذا نُطبق عليه طقوس هو غير مقتنع بها؟ هل المسيح يغصبُ البشر على إتباعه قهرا؟! لماذا التحكم في حياة البشر تحت مسميات براقة مثل الحفاظ على الحياه الأبدية و ما شابه من حجج واهية للتسلط والتجبر؟! فتعاليم السيد المسيح يَجِبُ ألاّ تُفرض قسرا على الإنسان، ولا تحتاج إلى قوانين متعسفة، بل تنبع من قلب الإنسان وإراداته. فالفضيلة لا تصبح فضيلة إلا إذا نبعت من داخل الإنسان وليس بقوة وسلطان القانون.

وختاما يجب على الأقباط أن يفهموا جيدا أن الزواج المدني ليس زنا كما يدعي البعض، وهو مُطبق في دول المهجر، والأقباط يتزوجون هناك بهذه الطريقة ولا يعترض أحد من رجال الدين الأتقياء/ الأشاوس كما يفعلون هنا! (مما يُثير علامات الاستفهام)، وعلى الدولة أن تصدر قانونا مدنيا للزواج للجميع، وليس من حق أي شخص الاعتراض، فالدولة لن تمنع البشر من الزواج الديني، بل ستسترد سُلطتها في الزواج، وتقوم بواجبها كأي دولة تحترم نفسها، وتحترم شعبها.

وهذا هو الحل الذهبي -من وجهة نظرنا- الذي سيحل كثير من المشاكل، ويؤكد على أن الدولة تتعامل مع الأقباط كمواطنين وليس كرعايا للكنيسة، ومن ناحية أخرى سيفض الاشتباك الدائم بين الكنيسة وبعض الأقباط المتضررين من ناحية، وبين الدولة والكنيسة من ناحية آخري (مثال ما حدث في 2010 وصدام البابا شنودة مع السلطة القضائية)، وسيجعل الأقباط يتعاملون مباشرة مع الدولة. وسيحل هذا الصراع الأزلي والصداع المزمن في جسد الكنيسة.

سلام على الصادقين