أحمد الخميسي
كل سنة وأنتم طيبون، ومصر بخير. عيد الفطر 2022، وفيه تصحو في ذاكرتي عمتي فتحية الخميسي، أول من نفحني جنيها كاملا في العيد عام 1960، وكان الجنيه ثروة ضخمة، ظللت يومين أتدبر فيم أنفقه. وكانت عمتي هذه ممتلئة، لكنها إذا نهضت لترقص لنا وحدنا رأيت فراشة خفيفة تحرك ذراعيها في الهواء، وإذا غنت ينقلب صوتها الحاد إلى وتر حساس وتغشى الدموع عينيها من التأثر والرقة.
كانت الفلوس، والملابس الجديدة هدايا مفرحة، لكن مع التقدم في السن لم تعد النقود والقمصان تبعث الفرح في نفسي، صرت أبحث عن الهدايا في البشر، أولئك الذين يطبطبون على الجراح، ويضمدون الروح بنظرة تقدير وحب وتعاطف. البشر المحبون للآخرين هم أجمل هدايا العيد وهم العيد. أذكر في هذا المضمار الشاعر الراحل عبد القادرحميدة الذي بدأت حياتي الصحفية معه في مجلة الاذاعة والتلفزيون، أذكر تفاؤله المتدفق. كنت أعمل وأنا مازلت طالبا في السنة الثانية ثانوي، وأذهب إلى المجلة بكتب المدرسة حتى لاحظها فبهت وقال لي : " يا أحمد غلف هذه الكتب ولو بورق جرائد.
أنت تراجع مقالات الصحفيين عندنا ولو عرفوا أنك تلميذ لثاروا وغضبوا". وظلت تربطني به علاقة المحبة حتى النهاية، وكثيرا ما كنت أتذكر في حياته قول شارلي شابلن:" نحن بحاجة إلى الطيبة أشد من حاجتنا إلى العبقرية".
في موسكو كان الشاعر العظيم رسول حمزاتوف هدية كل عيد، وهو القائل : " نجوم كثيرة وشمس واحدة.. نساء كثيرات وأم واحدة .. بلاد بلا عدد ووطن واحد". وعاتبني مرة لأني قليل الاتصال به، وحين قلت له معتذرا : " أنت شاعر كبير أستاذ رسول ولا أحب أن اشغل وقتك"، قال لي : " يا أحمد أنا أعطي أصدقائي وقتي المشغول وليس وقتي الفاضي". وطالما كان حمزاتوف حيا كنت أشعر بالطمأنينة وبأن الخير في العالم سيهزم الشر.
كان حمزاتوف هدية كل عيد. في مصر تعرفت إلى د. محمد رؤوف حامد، العالم الكبير الذي نال مؤخرا جائزة العمل الصحي الدولي تكريما لدوره العلمي والثقافي، وأحببت رؤوف حامد، فقد وجدت فيه ليس فقط العالم الكبير بل والانسان الذي يفيض بالعذوبة والتواضع، ولعل الجمع بين العلم والعذوبة معجزة.
ومازال د. رؤوف حامد هدية إنسانية لكل من تعرف إليه. نحن بحاجة إلى تلك الهدايا، إلى تلك النبرة التي تطبطب على الروح، بتفهم ومحبة، لأننا نمضي في حياتنا نظهر أننا متماسكون أشداء من دون أن يدري أحد أي جهد نبذله لنبدو أشداء ونحن ندوس على جراحنا. البشر اللذين يحسنون تضميد الروح هم أجمل هدايا العيد، أو هم العيد نفسه. أذكر الصديق العزيز د. أبو بكر يوسف وكنت أمر بأزمة طاحنة في موسكو، وحين حكيت له عما بي، وضع يده على كتفي ولزم الصمت. وكان صمته أبلغ من أي كلام. كان عيدا.
أذكر عمي الغالي محمود السعدني، وكنت قد عدت لمصر لتوي ولم يكن لدي الجميع سوى سؤال واحد يوجهونه إلي : " كيف انهار الاتحاد السوفيتي؟"، أما عم محمود فقد سألني سؤالا واحدا آخر : " أنت بتأكل منين ؟ "، وسعى ليجد لي عملا. في العيد أستعيد أصوات ووجوه وقلوب كل الذين كانوا في حياتي هدايا لا تقدر بثمن، كل من أقام في روحي خيمة محبة، وعلق على أطرافها المصابيح الملونة، واستدعى لها أعظم المنشدين والآلات الموسيقية. ابحثوا عن البشر، هداياكم في العيد، فتشوا عنهم في النظرات، والنبرات، والكلمات، وفي الصمت العطوف. أنتم هدايا الناس، والناس هداياكم. كل سنة وأنتم طيبون، ومصر بخير.
نقلا عن جريدة الدستور