سحر الجعارة
يخطئ من يتصور أن تنظيم «داعش» الإرهابى كان مشروعاً لدولة إسلامية انطفأت شمسها أو تجردت من أسلحتها وقضى العالم الحر على رؤوسها المدبرة! داعش هو لافتة عريضة لوكر عصابى تورطت فى نشأته وتنميته ودعمه مادياً ولوجستياً دول تنافرت سياساتها أو تناحرت أديانها ومذاهبها.. والتقت فيه مصالح بعض أجهزة الاستخبارات العالمية والإقليمية.. ودعنى آخذك معى إلى خيال أبعد، تكوين داعش الأخطبوطى العنقودى أشبه بعملية استخباراتية: التجنيد عن بُعد (إنترنت غالباً)، الغزو ودخول الأوطان بـ«المبايعة»، المرتزقة والقتلة المأجورون، الاستيلاء على ثروات الأوطان المحتلة لتمويل التنظيم، زرع عملاء لاختراق الأنظمة المستقرة.. ومد الخط على استقامته حتى تصل إلى «الذئاب المنفردة» فى ملف «الدواعش العائدين».

مسلسل «العائدون» ليس مجرد عمل درامى يروى بطولة حماة الأمن القومى «جهاز المخابرات».. إنه عمل ملحمى من «دم ولحم» لا يكشف وحشية داعش فى القتل والسبى بقدر ما يكشف بطولات رجالنا لتفكيك خلاياهم التى استهدفت مصر، وكيف استطاعت أجهزتنا اختراق التنظيم فى عقر دولته للحصول على معلومات تُجهض عملياتهم الإرهابية فى البلاد.

هذا هو «العقل المصرى» الذى يدرك طبيعة حروب الجيلين الرابع والخامس، والتى تعتمد بالأساس على الإعلام والمعلومات وهدم الدول بتفتيتها من الداخل.. الأسهل كان تقديم فيلم وثائقى للأيزيديات اللاتى جئن لمصر ورفعن صوتهن ليخاطبن العالم.. ولكن الأذهان تفكر: فأنت أيضاً خلف الشاشة تعبث بالكيبورد، تدردش فى قضايا أمنك القومى وتتباهى بمعلوماتك الفذة.. وأنت لا تدرى أن يدك المفعمة بالوطنية تقدم للعدو «معلومات قيمة»!

المسلسل هو أحد ملفات المخابرات المصرية للأحداث التى جرت فى الفترة من 2018 وحتى 2020، ولا تتصور أنها «كل الحقيقة»، فمثل هذه الملحمة الوطنية تتعرض لعملية تحليل مضمون دقيقة فى مختلف أجهزة الاستخبارات حول العالم.. نحن نكشف فقط كيف نعلم أبطالنا العمل «تحت الضغط»، كيف نتابع بأنفسنا خريطة المتغيرات الإقليمية والعالمية لنتنبأ ببؤرة الصراع القادم. نحن أيضاً نملك أوراق ضغط يمارسها إسماعيل/خالد «هانى رمزى» لشراء معلومات دون أن ندفع ملايين الدولارات، والحصول على منجم معلومات يستثمره نبيل «محمود عبدالمغنى».. ونحن أيضاً لنا «أصدقاء» فى مختلف دول العالم يثقون فى تقديرات مصر وأجهزتها.. ولدينا أبطال (أمير كرارة، أمينة خليل) يحسبون خطواتهم بالشعرة حين يقتحمون بجرأة دائرة النيران للفوز بأشهر قناصى داعش ويجنبون دولة صديقة شر الاقتتال الداخلى.

بشكل شخصى أنا منحازة للبطلولات النسائية فى الملاحم الوطنية مثل «أمينة»، ومن قبلها (هند صبرى فى هجمة مرتدة)، لأنك أولاً تقدم الوجه الأنبل للجهاز الحساس الذى يعتمد على مهارات الأنثى، سواء فى أعمال معلوماتية أو قتالية.. تعترف بجرأة الأنثى وصمودها وكفاحها وتضحياتها لتكون «جندية فى خدمة الوطن».

أنت أيضاً تُبرز الجانب الإنسانى لأسر الجنود البواسل فى خط الدفاع الأول عن البلد، ولا أقصد «المشاعر» فحسب، بل جانب الابنة المهمومة بوالديها والأب المنهك.. والحب المؤجَّل لآخر نفس.

قصص «الفداء» فى هذا العمل تبدو «رمزية الدلالة»: حرق داعش لأبو مصعب «محمد فراج» حياً.. ووحشية ضرب أبوعمر «محمد عادل» بالرصاص لتعجيزه عن الحركة وتركه يموت موتاً بطيئاً.. لكن الوطن يستحق: إن لم تشعر بأنك كلك تتضاءل أمام معلومة تفيد الوطن فأنت لا تستحق جنسيته، خاصة عندما تكون المهمة من اختيارك الحر.

أعتقد أن مشاركة بعض النجوم العرب، ولو كضيوف شرف، فى العمل إشارة للتكامل لحماية أمننا الإقليمى، حتى لو جسّدوا أدواراً تنتمى لداعش.

هذا المقال لا يُصنَّف نقداً فنياً، إنه قراءة لرسالة «الوعى» التى تقدمها الدراما المصرية.. رسالة بث الوطنية وتنميتها فى أجيال ربما لا تجد رمزاً ثقافياً وتبحث عن «الرمز».. رسالة لخطوط الوجع والفخر التى تزين جبين الوطن: هؤلاء هم أبناؤنا.. فيهم ملامحنا وصور أمهاتنا.. فيهم شهداؤنا وأحلام أطفالنا.. إنهم شرايين التضحية الموصولة بين الأمس والغد.
نقلا عن الوطن