كمال زاخر
مازلت استدعى عديد من المشاهدات التى تختزنها الذاكرة، علها تقدم لنا ـ كنيسة وأقباطاً ـ تفسيراً لما نحن عليه فى لحظتنا المعيشة، فكما أن المادة لا تفنى ولا تستحدث ولا تأتى من عدم، كذلك الأحداث والوقائع أيضاً، فالذى نعيشه، حلوه ومره، هو حصاد لما زُرع، بعضه تحت أعيننا وعاصرناه، وبعضه عبر قرون مضت سجلته لنا اقلام المؤرخين، وكثيره ونحن نيام.
فى ظنى أن ثمة تحولات كبرى وحادة فى تاريخنا الممتد كانت وراء حالة الإنقطاع المعرفى مع المنتج اللاهوتى فى زمن ما قبل هذه التحولات، فيما كانت الكنائس التقليدية التى لم تقع تحت سيطرة الاجتياح العربى ثم العثمانى فيما بعد، تواصل المراكمة على التراث اللاهوتى عندها، فيما نحن نحاول نقل ذلك التراث الى اللغة الجديدة التى احتاجت منا الى وقت لاستيعابها والتفكير بها، كانت أولاها حين هجرنا عمداً اللغة اليونانية عقب صدامات مجمع خلقيدونية، (451م) التى تخفت وراء الصراعات الاصطلاحية فيما كان وقودها الصراع حول قيادة الكنيسة ورئاستها، بين كرسى روما وثقله السياسى وكرسى الاسكندرية وثقله الثقافى وقتها، وانتهى بنا الحال إلى إعلاء القومى والذاتى على اللاهوتى، ونفضل مسمى الكنيسة القبطية عن مسمى كنيسة الاسكندرية، وينتقل مقر البطريرك القبطى من الاسكندرية الى حيث يكون الحاكم، يتنقل فى القاهرة من مصر القديمة الى حارة زويلة ثم حارة الروم ثم فم الخليج ليستقر فى الأزبكية ثم ينتقل إلى العباسية، ثم أخيراً يتم التحضير لنقله إلى العاصمة الإدارية الجديدة.
فى غضون القرن العاشر الميلادى وما تلاه يأتى التحول الثانى، حين هجرنا اللغة القبطية قسراً، الى اللغة العربية، ويقرر البابا البطريرك غبريال بن تريك (1131 ـ 1145م.)، ربما مضطراً، ترجمة الصلوات الليتورجية والطقوس إلى اللغة العربية، وكان من نتيجة هذه التحولات أن انقطع خط التواصل مع الاصول الآبائية إلا قليلاً، فضلا عن قصور تلك اللغات عن استيعاب دقائق اللاهوت كما كان الحال مع اللغة اليونانية.
وترصد موسوعة وصف مصر، التى كتبها مجموعة من العلماء الفرنسيين المصاحبين للحملة الفرنسية، حال الأقباط وقت الحملة فتراهم جماعة من الهراطقة، ولا يختلفون كثيراً عن بقية المصريين فى احوالهم المعيشية المتراجعة، وإن تميزوا فى علوم الحساب وتقسيم وتحديد المساحات الزراعية والعقارية. (للمزيد طالع موسوعة وصف مصر؛ كتاب "المصريون المحدثون").
الحملة الفرنسية، بعيداً عن كونها إعتداء سافر على مصر، كانت فى جانب منها بمثابة حجر ثقيل القى فى بحر السكون أو قل الخمول المصرى، الذى استغرقنا بفعل الإحتلال العثمانى لثلاثة قرون، ويأتى "محمد على" ليعبر بالمصريين الى ضفاف الدولة المدنية بمعايير زمانه.
فى اعطاف الحملة الفرنسية جاءت الحملات التبشيرية بأدواتها المتقدمة؛ الكتاب والجماعات الرهبانية الخادمة فى دوائر التعليم والصحة والعمل الإجتماعى، الدومنيكان والاباء اليسوعيين والفرنسسكان، فلم تقِل صدمة الأقباط الحضارية عن صدمة عموم المصريين.
ذهبت الحملة العسكرية ولم تذهب الجماعات الرهبانية الخادمة، التى راحت تبنى سلسلة من المدارس فى أحياء القاهرة الفقيرة وفى عواصم وقرى المحافظات خاصة الوجه القبلى، بجوار المستشفيات الصغيرة عبر رهبنة البنات.
ذهبت الحملة العسكرية ولم تذهب الصدمة الحضارية، لتبدأ دورات متلاحقة من الإحياء الثقافى والفكرى، حركت احداها الشباب القبطى، من جيل الربع الأول من القرن العشرين الذى سبق الإشارة إليه، والذى خاض كنسياً معارك متلاحقة انتهت به إلى اكتشاف أن التغيير لا يمكن أن يأتى بعيداً عن الرهبنة، فكان قرارهم طرق أبواب الأديرة، والالتحاق بالرهبنة وكان لهم ما أرادوا.
كانت الأديرة وقتها شبه مهجورة إلا من بعض الرهبان الشيوخ، وعندما نقرأ مذكرات بعض من رموز تلك المرحلة نقف على حال الأديرة والرهبان وقتها، وكم المعاناة التى يعيشونها، وكيف كانت الأديرة منعزلة عن العالم، وصعوبة الوصول اليها إلا عبر "مدقات بدائية" سواء فى الصحراء الشرقية أو الغربية، فلم يكن متوفراً سوى الطرق التى أقامها الجيش الإنجليزى لخدمة وحداته العسكرية ابان الحرب العالمية الثانية ولعل اشهرها طريق مصر اسكندرية الصحراوى.
شهدت الكنيسة محاولات عديدة للإصلاح، لكنها لم تكتمل لعل ابرزها ما قام به البابا كيرلس الرابع (1854 ـ 1861م.) لم يمهله العمر استكمال مشروعه الإصلاحى، وتتردد أقاويل مؤسفة عن طريقة وفاته.
ولعل النموذج الثانى، والذى قد يصدم الهوى السائد، هو البابا يوساب الثانى (1946 ـ 1956م.) الذى اغتيل معنوياً ومادياً، وتم تشويه سيرته، رغم أنه ـ وربما بسبب ـ دراساته اللاهوتية، حين كان راهباً، بجامعات اليونان، فقد انتبه لأهمية اعداد المرشحين لخدمة الأسقفية فأعاد الحياة الى مدرسة الرهبان بحلوان، والتى تستقبل الرهبان المتوسم فيهم صلاحية الخدمة الأسقفية ليخضعوا لكورسات تعليمية مكثفة فى علوم الكنيسة وعلوم الإدارة، ومنهم يتم الإختيار لرتبة الأسقف، اللافت أن كل الاجنحة الفاعلة فى الكنيسة من شباب الأقباط تحالفوا ضده ـ رغم خلافاتهم الايديولوجية والحركية ـ فبينما قامت جماعة الأمة القبطية باختطافه وايداعه أحد أديرة الراهبات وفرضوا عليه الإقامة الجبرية بعد توقيعه وثيقة تنازل عن العرش الباباوى، تقوم جماعة مدارس الأحد بشن حملات لا تتوقف لتشويه صورته على صفحات مجلة مدارس الأحد، وعندما يجلس البابا كيرلس السادس على الكرسى البابوى يقوم برسامة اسقف لحلوان وتصير مدرسة الرهبان مقراً له، وتصبح المدرسة أثراً بعد عين!!. من الذى يمسك كل هذه الخيوط ـ المتباينة ويحركها؟ ... سؤال.
مع انتصاف القرن المنصرم تبدأ دورة جديدة من زمن الأديرة والكنيسة، ففى العام (1948م.) يطرق شابان ابواب القمص مينا المتوحد بدير الأنبا صموئيل المعترف بمغاغة ـ كل على حدة ـ طلباً للرهبنة ثم يرسلهما عام 1950 الى دير السريان، وبعد نحو خمس سنوات (1954م) يطرق شاب ثالث ابواب نفس الدير (السريان)، ويصبح ثلاثتهم محور الحراك الكنسى بامتداد ما بقى من القرن، كان الشابان الأستاذ سعد عزيز ـ ليسانس حقوق (نيافة الأنبا صموئيل اسقف الخدمات)، والدكتور يوسف اسكندر ـ صيدلى (قدس الأب القمص متى المسكين)، أما الشاب الثالث فكان الأستاذ نظير جيد ـ ليسانس آداب، (قداسة البابا شنودة الثالث)، اختلفوا فى الأهداف وجمعهم الطريق، كان كل منهم بارعاً فيما امتلك من مواهب، لكنهم فقدوا بوصلة التواصل والتكامل، والقبول المتبادل، ولا أزعم أننى أصلح لدور القاضى أو المحلل النفسى، وأعترف أن ثلاثتهم اسهم فى بنيان وجدانى الفكرى والعملى والروحى أيضاً، بأقدار مختلفة وفق مشوار النضوج الذهنى والمعرفى، ضمن دائرة كبيرة ممن تتلمذت عليهم فى الفضاء العام، فى زمن كان الكتاب والمطبوعة بتنوعها هى خبز يومنا، قبل أن يزاحمها الإعلام المرئى وصخب الفضاء الالكترونى وعالمه الإفتراضى، الذى جاء وجيلى يلملم أوراقه توطئة لرحيل حتمى يطرق أبوابى، أقر أنه ابهرنى لكنه لم يستغرقنى.
لندع التقييم اللاهوتى لأهل الاختصاص، ولا أزعم أننى منهم، ولنقترب من كيفية ادارة ثلاثتهم للمشهد، فقد كان الاستاذ سعد عزيز (الأنبا صموئيل) رجل الموائمات والتحالفات، وهى قدرة صقلتها طبيعة دراساته القانونية والإدارية، ويمكن اعتباره دينامو المرحلة، وكان لهذا انعكاساته على دوره فى تأسيس كنائس المهجر، وفى تحويل تجمعات الأقباط هناك إلى قيمة مضافة ومؤثرة للوطن الأم، وفى دعم رفيق مشواره الكنسى (نظير جيد) من العلمانية إلى الرهبنة إلى الأسقفية ثم إلى كرسى البابوية، ولم يوقفه عن الحركة المكوكية بين القاهرة وبلاد المهجر إلا اغتياله فى حادث المنصة ومصر تحتفل بذكرى انتصارات اكتوبر المجيدة 1981.
أما الدكتور يوسف اسكندر (الأب متى المسكين) فلم يكن سعيه للرهبنة طلباً للنسك والتقشف، بل بحسب أوراقه وكلماته المسجلة كان يبحث عن مكان ومناخ يتيحان له تفرغاً يشبع نهمه فى سبر أغوار الكتاب المقدس والإجابة على سيل الأسئلة الوجودية التى تحاصره، ووجد ضالته فى درب الرهبنة بتطورات متلاحقة وعاصفة، كان جاداً فى سعيه، وعنيفاً مع نفسه، وفى اختياره العزلة عبر الرهبنة بين بدائل عديدة استعرضها فى أوراقه، ولم تفارقه خاصية السير ضد التيار، التى تحولت إلى مواجهات حادة بامتداد حياته، يبدو أن استغراقه فى البحث عن اسرار "المطلق" رسخ عنده التمسك بالمثالية بدون موائمات أو توازنات، ولعل هذا يفسر صرامته فى ادارة شئون وكالة البطريركية بالاسكندرية، التى لم تحتمل منهجه ولم يكن من حل سوى عودته لديره، وتتكرر صرامته فى تعامله مع الأجيال التالية ممن التحقوا برهبنة أبو مقار، واعتكافاته الممتدة باستراحة الدير بالساحل الشمالى، الأمر الذى دفع العديد من رهبانه على الارتحال إلى دير الأنبا بيشوى دون أن يغيروا شكلهم الرهبانى المقارى، ودون أن يسعوا لرسامة اسقفية كما فعل البعض. ودون الارتداد إلى حياتهم المدنية كما فعل بعض أخر.
ماذا عن الرفيق الثالث (نظير جيد) والذى تفرد عن رفاقه بالوصول إلى موقع البابا البطريرك، وعاصر تحولات عنيفة وحادة فى الفضاء المصرى والإقليمى والدولى، استأذنكم أن يكون اقترابنا منه موضوع المقال القادم.