من العلامات الكبري في تاريخ مصر في العصر الوسيط الكوارث والأوبئة التي جعلت الشعب المصري يكاد ينقرض، وتستطيع أن تتصور ذلك إذا عرفت أن مصر التي زاد عددها علي العشرة ملايين في العصر اليوناني والروماني أو العصر الهليني الذي شهت القرون الثلاثة الأولي منه تعذيب وفتكا بالمصريين الذين آمنوا بالمسيحية لم يتدن عدد سكانها وظل كذلك ويزداد بعد الاعتراف بالمسيحية حتي دخول الإسلام،
وحين دب الضعف في الخلافة الإسلامية توالت علي مصر دول متعاقبة كان المصريون هم آخر من يهتم به الحكام حتي صار الطاعون مرضا لا يبعد عن مصر وهكذا راحت أعداد المصريين تتناقض في ظل الفقر والقهر والفساد ونهب ثروات الوطن وتوالت كذلك المجاعات التي تجد أخبارها عند المقريزي وابن اياس وغيرهما من المؤرخين حتي صارت الناس تأكل أولادها بعد أن عزت القطط والكلاب، ذلك كله معروف لا يضيرنا أن نعيده ولا نخيف به أحدا وانتهي الأمر حين دخل نابليون مصر عام 1798 بمصر وقد صار تعداد سكانها مليونين لا أكثر من الفقراء أو الشيوخ والأعيان والتجار فقط مليونين ولا تذهل إذا قلت لك إن مدينة مثل الإسكندرية كان عدد سكانها في العصر اليوناني أو المقدوني إذا احببت ثلاثمائة ألف حر ولا شك تستطيع أن تضيف ربعهم أو نصفهم من العبيد وحين جاء نابليون كان تعداد الإسكندرية ثمانية آلاف نسمة،
انظر ماذا فعل الفساد والاستبداد والأوبئة والمجاعات في البلاد، لقد كان ما فعله نابليون بونابرت بسيطًا جدًا إذ أدرك علي الفور ما نسيه الحكام المصريون أن الأوبئة تأتي من القذارة ومن ثم بدأت علي الفور حركة لتنظيف الشوارع واضائتها بالغاز وتم تعيين المرأة لكل شارع لها مهمة واحدة هي اجبار النساء علي تعريض المراتب والمفروشات في الشمس كل يوم جمعة، وتم نقل المقابر خارج القاهرة وهكذا اختفت الأوبئة وبدأت أعداد المصريين في التكاثر وفي عصر محمد علي بدأت نهضة كبري كان من أهم أسسها حرية العبادات فأخذ المسيحيون مكانهم مع المسلمين وكذلك فعل اليهود وانطلقت مصر في نهضة كبري يطول الكلام فيها ويكفي أن مصر البلد الموبوء من قبل صار يهدد أوروبا بأساطيله ويهدد الامبراطورية العثمانية نفسها مما جعل أوروبا بزعامة إنجلترا تتآمر علي محمد علي وتحدد له عدد الجيش بثمانية عشر ألف جندي فقط وأن يفتح البلاد لرأس المال الأجنبي، أو ما سمي بسياسة الباب المفتوح لكن مصر رغم ذلك لم تعد للأوبئة والمجاعات، صارت النظافة عنوانا للبلاد، وبعيدا عن تاريخ مصر السياسي والاقتصادي صارت مصر من أجمل بلاد العالم، مدنها الكبري بالذات، وكان يقال إن لندن وباريس مدينتان نظيفتان مثل القاهرة،
نسي الناس بداية النظافة ونسي الناس المرأة التي عينتها حكومة الاحتلال الفرنسي تعاقب النساء إذا لم يخرجن مفروشات البيوت في الشمس والتي أتذكرها الآن كلما مشيت في شوارع الجيزة الكبري والصغري وكذلك القاهرة إما إذا زرت الريف فحدث ولا حرج عن أكوام الزبالة والجثث النافقة في الطرقات والنفايات التي يلقي بها في النيل وفي الترع والمصارف وغير ذلك مما هو غير خفي علي الشعب كله والحكومة طبعا، يحدث ذلك في وقت فيه حكومة مركزية أقوي من حكومة محمد علي ومحافظون لكل مدينة أقوي من حكام الاقاليم ذلك الوقت وإدارة محلية في كل مدينة أو محافظة ووزارات للصحة والإسكان والسكان وما شئت فما الذي أوصلنا إلي هذا الحال، ولماذا لا يخاف أحد من عودة الأوبئة مرة أخري إلي مصر؟ ما هذه الثقة في أن مصر بخير ونحن نري حولنا إنفلونزا الطيور وقد توطنت في البلاد وأنفلونزا الخنازير التي فيما يبدو سوف تتوطن وطاعونًا يقال إنه قادم من الحدود الغربية وتيفويدًا يفتك بالفقراء في الريف وطبعا لن أحدثك عن فيروس سي ولا فيروس بي ولا البلهارسيا ولا السل الذي كان قد اختفي من البلاد لأنه مرض يرتبط بالفقر لكنه عاد. نحن في حاجة شديدة إلي تعيين امرأة علي رأس كل شارع لكن لكي تضرب النساء أو تعبطهن كما كان يحدث ولكن لكي تأتي مرة علي الأقل كل أسبوع بمسئول الحي أو مسئول النظافة في الحي وتربطه إلي أي عمود نور وتطلب من الرجال والشباب وأطفال الحي أن يقوموا بعبطه وضربه بالعصي والخيزران حيث يكره،
لم يعد أمامنا إلا هذا الأسلوب القديم ولكن هل سوف تسمح الحكومة بذلك وهي التي قامت بتعيين هؤلاء المسئولين واعطائهم الرواتب الكبيرة من ضرائب الشعب؟ الحكومة لن تفعل ذلك، إذن ليس أمامنا ألا عبط هذه الحكومة لكن هذا أيضا لا نستطيعه لأن الحكومة وأكبر القوي السياسية كما يقال متفقتان علي ما نحن فيه فالإخوان المسلمون وكل الجماعات الدينية وكل المشايخ في الصحف والفضائيات يتحدثون في كل شيء وأكثر ما يتحدثون فيه كلام فارغ لكنهم ابدا لا يقولون لأحد إن النظافة من الإيمان، وكذلك الدولة ورجالها لا يرون الشوارع التي نراها ولا يريدون بل لا يريدون لأحد أن يذكرهم بشيء كان جميلا في بلادنا وأعني به النظافة كما لا يريدون لأحد أن يذكرهم بالليبرالية وحقوق الإنسان وحرية العبادات ولا انتخابات للمحافظين ورؤساء الأحياء وغير ذلك مما يطول فيه الكلام هل تختلف هذه الحكومات عن حكام مصر في عصور الانحطاط والأوبئة؟ لا أظن! كلهم لا يهتمون وكلهم استباجوا ثروات البلاد، طيب لماذا يزداد السكان رغم ذلك؟ هذه قصة أخري بطلها الفكر السلفي الذي يرفع شعار تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم دون أن يفكر أحد كيف تكون المباهاة بشعب أكثر من نصف سكانه مرضي وأمراضه عضال؟
*نقلاً عن الوفد |