كمال زاخر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفضاء القبطى : اعادة ترتيب المنظومة الأسقفية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"نجاوب شوية اسئلة" ... جملة يفتتح بها الرجل القادم إلى الكرسى البابوى (48 عاماً) اجتماعه الاسبوعى، فيما كانت جملة "ربنا موجود" هى الجملة التى اختتم بها مقاله الإفتتاحى والوداعى فى مجلة الكرازة، وهو بعد أسقف مبعد من البابا البطريرك السابق، البابا كيرلس السادس، قاصداً قلايته، سجلتها لنا مجلة الكرازة ـ اكتوبر 1967 فى نهاية افتتاحية العدد التى تناولت الأزمة التى انتهت بالإبعاد فيقول :
[لقد إضطررت ياإخوتى القراء أن أكلمكم بصراحة بعد صمت طويل، حتى تتدبروا الأمر معنا فى مصير كليتكم الإكليريكية .. أما أنتم ياإخوتى الإكليريكيين، فإن كان بسببى قد حدث هذا النوء العظيم عليكم، فأنا مستعد أن أبتعد لكى تهدأ الأمور، أنا مستعد أن أرجع إلى الدير، إلى مغارتى المحبوبة فى الجبل، إقضى بقية أيام غربتى هناك، وأريح واستريح " ويكفى اليوم شره"،... أما الإكليريكية فهى كأى عمل من أعمال الله ـ لابد أن تصطدم بصعوبات ومعوقات، وكأى عمل من أعمال الله لابد أن تنتصر على الصعوبات والمعوقات ]. ثم ترد عبارة {ربنا موجود} فى برواز كبير، عقب هذه الكلمات وقبل توقيع الكاتب "شنودة أسقف المعاهد الدينية والتربية الكنسية".
تتوقف المجلة عن الصدور بعد المصادمة التى حدثت بين البابا كيرلس واسقف التعليم والتى اقتضت عودة الأسقف إلى الدير، ثم يعاد لمهام عمله ولم تعد المجلة، ثم تعاود الظهور بنفس الشكل والحجم، مع تتويج البابا شنودة، فى عددين، الأول يضم شهور يناير وفبراير ومارس1972، وهو عدد احتفالى خصص لسرد مسيرة انتخاب البابا الجديد واختياره بالقرعة الهيكلية، بعد انتخابات جرت بين المرشحين، ثم "تتويجه" بحسب وصف المجلة كبابا، وتنتهى المجلة بمتابعة رسامة اسقفين للغربية والبحيرة، وقد حفل العدد بنحو 180 صورة تسجل رحلة رسامة البابا واستقبالاته ونشاطاته، والعدد الثانى يضم شهور يونيو ويوليو واغسطس، ثم تتحول المجلة فى بقية زمن البابا شنودة إلى شكلها المتداول اليوم.
وبين جملتى "تجاوب شوية أسئلة" و "ربنا موجود" نضع ايدينا على مفاتيح تواصله مع القاعدة العريضة من مريديه ومحبيه، والآخذة فى الاتساع خاصة مع وهج منصب البابوية، إضافة إلى تنامى استهداف الأقباط من قبل الجماعات المتطرفة ومغازلة القيادة السياسية لتلك الجماعات ودعمها وقتها، ليصير البابا البطريرك ملاذاً وحصناً يحتمى فيه "الشعب القبطى"، كانت "الإجابة على شوية اسئلة" فقرة تسبق فى توقيتها وأهميتها الكلمة الرئيسية ـ العظة، وكانت محل متابعة من الجهات والأجهزة الأمنية والسياسية فى الدولة للوقوف على توجهات وتوجيهات القيادة الكنسية، أو الرسائل التى تحملها الإجابات سواء للحضور أو المتابعين والمحللين. وربما تفسر لنا عبر قراءة وتحليل مضمون الأسئلة والإجابات، وربما المحاضرة والكلمة الرئيسية، لماذا تصاعدت المواجهة بين الدولة والكنيسة، السادات والبابا، حتى انتهت إلى صدام سبتمبر 1981، وفيه أُبعد البابا مجدداً إلى الدير بأوامر أمنية رئاسية. وربما نكتشف أننا إزاء رجل سياسة يملك أدواته فى ثياب بطريرك.
كان الهدف واضحاً منذ ترشحه الأول بعد أقل من عامين فى الرهبنة، إعادة هيكلة المشهد القبطى والكنسى، ولم يبارحه فى مشواره حتى نجح فى تبوأ موقع البابوية، فشرع فى ترجمته على الأرض، بل أظنه مهد له فور التحاقه بالدير، ويحكى أقرانه كيف كان يجول بينهم محفزاً لهم على الإلتحاق بالرهبنة، وبعضهم كان مازال بالجامعة فتركها وترهب، بعد أن يضعه أمام مفاضلة العالم والأبدية، وكيف ترك التلاميذ كل شئ وتبعوا الرب يسوع، والذى يكرر الدعوة للرفقاء، مجدداً، من خلاله، ونجح أيما نجاح. فى تكوين الخميرة التى تخمر العجين كله. برؤيته وطموحاته.
الحياة الديرية وقتها كانت رتيبة، فالأديرة كانت شبه منعزلة ويومها يتوزع بين قوانين (التزامات) الراهب اليومية من عبادات يتخللها بعض الأعمال اليدوية (عمل اليدين) والقراءة ونسخ المخطوطات، وكان التحاق باكورة الشباب الجامعى نقطة تحول ايجابية انعكست على انماط الحياة اليومية، لكنها لم تمنع اصابة الراهب بلحظات من الضجر الروحى والنفسى، وهى حالة يعرفها المختبرين منهم، وكان علاجها ان ينصح الراهب بالخروج خارج اسوار الدير يهيم على وجهه حتى يفرغ تلك الطاقة السلبية ثم يعود ادراجه لقلايته، ويواصل حياته ويومه، شئ من هذا اصاب الأب متى المسكين، فاتخذ قراره بأن يترك ديره قاصداً العودة الى دير أنبا صموئيل المهجور بصحراء مغاغة، فالتف حوله نفر من رهبان الدير الشباب المتتلمذين عليه وقرروا الخروج معه، ولم تجد معهم نصائح ابيهم، كانوا نحو اثنى عشر راهباً وكان من بينهم الراهب انطونيوس السريانى الأكثر حماساً، تصادف فى لحظة خروجهم قدوم الأنبا ثيئوفيلس رئيس الدير قادماً من مقر الدير بالقاهرة (العزباوية) الذى استفسر عن تجمعهم ووجهتهم، وحاول اقناعهم بالعدول عن قرارهم، لكنهم رفضوا، وانبرى الراهب الشاب انطونيوس بالرد، بحسب ما سجلته سطور كتاب السيرة التفصيلية للأب متى المسكين الذى اصدره الديربعد رحيله، قال للأب الأسقف " الرهبنة التى تعلمناها : أب روحى مرشد مع رهبان يسيرون فى طريق الخلاص" ، "نحن رهبان نسير وراء أبينا الروحى ... الرهبنة ليست أسواراً ولا حدائق ولا أكلاً وشرباً ... إننا نسير وراء الأب الذى يقودنا ويرشدنا". فأسقط فى يد الأسقف وتركهم لما ارادوا.
فى دير الأنبا صموئيل تفاصيل تشير إلى حقيقة التربيطات والتحالفات وما شهدته اروقته من زيارات مكوكية متلاحقه من خارج المجموعة التى قصدته انتهت بقرار مفاجئ للراهب انطونيوس بترك المجموعة وعودته لدير السريان بحسب نصيحة صديقين أحدهما راهب والأخر مدنى علمانى وثلاثتهم كانت تجمعهم اللجنة العليا لمدارس الأحد ... بعد أن ادرك أن ذلك افضل جداً ويدعم الاقتراب من سعيه الأثير. اللافت أن الهدف تحقق فيما انهارت صداقتهم فيما بعد.
اشرنا قبلاً إلى الحالة التى تشكلت بعد دخول الرفاق الثلاثة سلك الرهبنة، إذ شهدت الأديرة اقبالاً متصاعداً غير مسبوق من خريجى الجامعات ربما تأسياً بهم، وربما للإنتباه لواحد من حلول مواجهة البطالة، ومع كل صعود للرفاق الثلاثة يتزايد طالبو الرهبنة.
ما أن تولى البابا الجديد قداسة الأنبا شنودة الثالث بدأ فى تفعيل قناعاته، فى عدة محاور بالتوازى، بداية من تقسيم الإيبارشيات الكبيرة وقد ساعده فى ذلك رحيل المطارنة الشيوخ تباعاً، لتتغير موازين القوى داخل مجمع الأساقفة، وقد بدأ برفاق المسيرة، وكان وفياً لكل من اسدى له فضلاً وهو راهب أو وهو اسقف تعليم، فرده فيمن يراه من الممكن أن يتبوأ موقع الأسقفية من أبناء أو اقارب اصحاب الفضل، لتشهد الأديرة نسق الرهبنة الترانزيت، وفيها يتم قبول الشخص الذى يود البابا رسامته، ليمكث راهبا لمدة قد لا تتجاوز العام، ثم بخرج من الدير الى حفل الرسامة الأسقفية، لاستيفاء الشروط المستقرة فيمن يود رسامته. فضلاً عن التوسع فى رسامة الأساقفة العموم ـ اساقفة بدون ايبارشيات ـ والمتابع لتاريخ البطاركة يرصد أن كل بطريرك جديد يحرص على رسامة اساقفة جدد يكون بهم كتلة تصويتية داخل المجمع تدعمه فى تمرير قراراته فى مواجهة الحرس القديم. وقيل فى تفسير ذلك أن رعية قليلة تعنى رعاية أفضل، فيماكان هناك من يرى أنه تفتيت يربك الخدمة، ويمثل عبئاً على الرعية فى تغطية مطالب واحتياجات الأسقف الجديد خاصة خارج العاصمة.
فى البدايات حرص البابا الجديد على التوسع فى رسامة الكهنة من خريجى الجامعات، واستدعائهم من وظائفهم المدنية لضمان مسنوى جيد وواعى عند الكهنة الجدد، ولم ينتبه لما يحدثه هذا من تفريغ سوق العمل من الوجود المؤثر لكوادر الأقباط، فضلاً عن أن التعليم المدنى وحده لا يقدم لنا كاهناً معد لخدمته، والقول فى بعض الحالات بأنه حاصل على دراسات اكليريكية ـ القسم المسائى ـ لا يلتفت الى تراجع مستوى الدراسة فى هذه الاقسام، والتى لم يكن غرضها اعداد كهنة بل تثقيف شباب الخدام، وانتهى الأمر الى موات القسم الاكليركى النهارى وارتباكه، وهو ما سنعرض له لاحقاً.
وفى تطور لافت بدأ التوسع فى رسامة الاساقفة العموم، بغير أن يحدد لهم فى منطوق الرسامة مهام محددة كما كان الحال مع نظرائهم فى حبرية البابا الراحل انبا كيرلس، أو فى حالة اسقف الشباب فى بدايات رسامات البابا الجديد ـ وقتها ـ أنبا شنودة.
نرصد فى القاهرة ـ كرسى البابا ـ ظاهرة تعيين أساقفة عموميين لمهمة الإشراف على قطاع جغرافى يضم عددا ًمن الكنائس، مثل مجموعة كنائس المعادى، شرق السكة الحديد، وسط المدينة، عين شمس وضواحيها، وهى بالأساس تجربة مهمة تأتى فى سياق دفع وتفعيل الخدمة بهذه المناطق، لكنها تجربة تحتاج إلى تقييم وإعادة قراءة فى ضوء الممارسة العملية ـ فهى بشكل ما تعنى تبعية القطاع لأسقفين ـ قداسة البابا اسقف المدينة والأسقف المعين للإشراف على القطاع وإدارته .
ـ فضلاً عن تهميش دور كهنة الكنيسة المحليين وهو ما نشهده من الضغط الشعبى على الأسقف العام المعنى، طلباً لحل مشاكل شعب القطاع والذين يتجهون اليه مباشرة فى تجاوز لكهنتهم. وأدى هذا ايضاً إلى اختفاء رتبة "الإيغومانوس" ـ القمص ـ فى غالبية تلك الكنائس فأخل بالترتيب التدبيرى بحسب خبرة الآباء، ونتج عنه تساوى كل كهنة الكنيسة فى الصلاحيات مما أدى إلى بروز العديد من الخلافات وربما المصادمات.
ـ ويبقى الأسقف العام هنا معرضاً للنقل أو إحالته للدير، لأسباب متعددة، لأنه يتولى عملاً معاونا لأسقف المدينة بغير أن يكون له سند قانونى يستمده من رسامته على المكان ويضمن له الإستقرار والإستمرار، أو ربما لأحتمالات الوقيعة بينه وبين اسقف المدينة على خلفية القبول الشعبى الذى يمكن أن يحققه الأسقف العام وما يولده من مقارنات قد يراها اسقف المدينة انتقاصاً من هيبته، وهو وضع يحتاج إلى دراسة قانونية كنسية، وينبه الى أهمية إعادة الإعتبار لرتبة الإيغومانوس، والتى هى وفق التجارب المعاشة فى زمن أسبق الأفضل رعوياً وتدبيرياً، وينطبق هذا أيضا على دراسة إحياء رتبة الـ " خورى إيبسكوبوس " ـ مساعد الأسقف، والتى تم تجربتها على استحياء فى ايبارشية بنى سويف وإيبارشية القليوبية، ولم يكتب للتجربتين الإستمرار أو التكرار لأسباب مختلفة وغير معلنة، رغم أنهما وفرا حلاً قانونياً بحسب الآباء، ولست بحاجة إلى التأكيد على إحترامى وتقديرى للأباء الأساقفة العموم الموكل إليهم هذه المهام، فالطرح ينصب على التجربة لا على الأشخاص.
ومازال المشاهدات تتوالى عسانا نضع ايدينا على اختلالات اللحظة المعيشة توطئة لتصويبها.