فاروق عطية
في هذا البوم المهيب، يوم ذكري وفاة المغفور له الجنيه المصري الذي مات منتحرا لسوء معاملته ومرمطنه من حكومات مصر الجمهومملوكية المتعاقبة من عبد الناصر حتي السيسي، قررت التوقف عن الكتابة في السياسة عما حدث وما لم يحدث وما يجب أن يحدث، قررت أن آخذ فسحة لالتقاط الأنفاس وأروح عن نفسي بالرجوع للماضي الجميل، استعرض شريط ذكرياتي عن الماضي الذي ولّى وفات، أيام الصبا والشباب من بداية الاربعينيات وأتحسّر على أيام جميلة ليتها تعود ولكنها أبداً لن تعود لأن الزمن لا يتوقف عن البرطعة والجريان وبالقطع لا يمكن أن يعود، وعلى رأى الست ثومة حين تصدح قائلة "عايز الزمان يرجع زي زمان قول للزمان ارجع يا زمان" ولكن هيهات فألذى فات فات وفي ديله سبع لفات.
أتذكر أن الناس فى الأربعينيات كانت تعتبر الأسعار مبالغ فيها وأن سبب ذلك يرجع للحرب العالمية الثانية التى انتهت ولكنها خلّفت دمارا تبعه ارتفاع أسعار السلع، وبالرغم من ذلك فقد كانت الأسعار ثابتة ولم تتعير منذ بدأنا أطفالا نتعامل بالشراء حتى قيام حركة الضباط الغير مباركة في بداية الصبا والشباب. كانت بعض السلع شحيحة وتوزع بالبطاقات مثل الكيروسين والسكر وبعض الأقمشة الشعبية كالكستور والدبلان والزُفير. وكان الفرق بين سعر السلعة بالبطاقة وسعرها الحر لا يتجاوز بضع قروش، مثلا كانت أقة السكر الحر 3.5 قرشا وبالبطاقة 2.5 قرشا، وكان لتر الكيروسين بقرش واحد وعلى كل بطاقة عدد من كوبونات الكيروسين يخفض السعر إلى خمس مليمات للتر.
كُنت فى بداية الاربعينات تلميذا بالمدرسة الابتدائية وكان اليوم الدراسى سبع حصص يومية يتخللها فُسحتان، فُسحة صغيرة ربع ساعة بعد الحصة الثالثة وفُسحة كبيرة مدتها ساعة بعد الحصة الخامسة (لوجبة الغدا). وكان مصروفي اليومي الذي كان يحسدني عليه الكثير من التلاميذ قرشا كاملا، كنت أنفق نصفه فى الفسحة الكبيرة بشراء سندوتش طعمية ساخنة وباذنجان مقلى مع السلطات نصف رغيف مليئ من الصعب على طفل مثلى أن يأكله فكنت أقتسمه مع صديق يعطينى بعض الحلوى فى المقابل. وكنت أشترى بنصف مليم لب ونصف مليم حمص وسودانى للتسلية ويتبقى معى أربعة مليمات كاملة أقتصدها حتى يتكون عندى مبلغ كبير كخمسة قروش لاشترى كرة قدم ألعب بها مع الأتراب.
كنا نشترى ثلاث بيضات بقرش ورطل اللحم بقرشين وأقة السمك من أفخر الآنواع بقرش ونصف، ولتر اللبن بخمس مليمات، ورطل الزبد البلدى بقرش وحزمة الفجل بمليمين وأحيانا ثلاث حزم بتعريفة (خمس مليمات). ورغيف العيش البلدى اللذيذ الطعم وجيد الصنع كبير الحجم بتعريفة (5 مليمات)، وكان يوجد منه أنواع عديدة منها الطرى والملدن والمفقع والمحمص، ويتبارى أصحاب المخابز فى توصيل الخبز للمساكن، وكانت الفاكهة والخضروات تباع بالشروة وليست بالميزان مقابل مليمات أما البلح فكنا نشتريه بطرح النخلة بما لا يزيد عن الخمسة قروش. وكان إيجار البيت من بابه أو الشقة المتسعة ثلاث عرف نوم تؤجّر بخمسين قرشا شهريا لمن لا يملك بينا.
كان الجنيه المصري يساوى مائة قرشا والقرش يساوى عشرة مليمات والمليم يساوى برونزتين، وكان الجنيه المصري عملة محترمة بل سيد العملات، تفوق سطوته عملات دول العالم الكبرى، كان الجنيه الاسترلينى الذهب يساوى 97.5 قرشا والدولار الأمريكى يساوى 20 قرشا. كانت العملة المصرية الورقية ذات فئات مختلفة أكبرها الورقة ذات المائة جنينه، والورقة ذات الخمسون جنيه، والجنيه المصرى الأخضر اللون، ثم نصف الجنيه وربع الجنيه وعشرة قروش وأصغرها الخمسة قروش. أما العملات المعدنية كانت كالآتى: عملات فضية من الفضة الخالصة وهي الريال (20 قرشا) ونصف الريال (10 قروش) وربع الريال (خمسة قروش) وأصغرها عملة ذات القرشين، وهناك العملات المعدنية من النيكل وهي القرش ونصف القرش (التعريفة) ونصف التعريفة (عشرة فضة) والمليمين (النكلة)، أما العملة النحاسية فكنت المليم ونصف المليم (البرونزة) وحدثنا الأجداد عن السحتوت (2.5 بارة) والبار (ربع المليم). وكانت العملات المعدنية كالقرش والتعريفة باسم السلطان حسين والملك فؤاد والملك فاروق ومنها العملات المخرومة والغير مخرومة. وفى مرحلتّي الطفولة والصبا لم أتشرف بالتعرّف على فخامة الجنيه المبجّل ولم التق به وجها لوجه إلا فى مرحلة الدراسة الجامعية، فقط تعرفت على العملات المعدنية من الفئات الصغرى أكبرها لا يتعدى العشرة قروش.
ظلت الأسعار ثابتة لا تتغير منذ الأربعينات حتى منتصف الخمسينات بعد قيام حركة الضباط. وبدأ الارتفاع التدريجى للأسعار فى منتصف الخمسينات وكان سبب ذلك تشدق عبد الناصر برفع أجور العمال فى كل عيد من أعياد الثورة دون دراسة أو إيجاد موارد للصرف على هذه الزيادات غير التضخم التمويلى بطبع المزيد من العملات دون أن يقابلها أرصدة حقيقية. وللحقيقة فقد كانت الزيادة فى الأسعار غير كبيرة وغير متلاحقة بالصورة البشعة التى نراها هذه الأيام وذلك لأن الدولة كانت تدعم الأسعار بالاستدانة والقروض حتى لا يحس المواطنون بهذه الفروق، وعندما انتهت الحقبة الناصرية ورث الرئيس المؤمن إرث مثقل بالديون.
البداية الحقيقية لتوحش وجنون الأسعار كانت بعد الهزيمة المرة فى 1967م حين بدأت العمالة المصرية فى السفر حيث يوجد الرزق فى بلاد النفط لدويلات الخليج والعراق ويعودون بوفرة المال التى تمكنهم من قدرة الشراء حتى قيل إنهم السبب في غلاء المِش على الطبقات المطحونة. وازدادت الأسعار توحشا بالانفتاح الغير مخطط فى عصر الرئيس المؤمن وظهور مافيا التوكيلات وسماسرة التجارة وحيتان توظيف الأموال، وزاد غول الغلاء توحشا فى عصر بسلامته الرئيس المزمن وسيطرة الحزن الوطني على مقدرات شعب أعزل مهيض الجناح تطحنه الأمراض والجهل وتمسك بتلابيبه عوامل الفقر وكثرة العيال وقلة الحيلة والبركة فى مجلس سيد قراره المليء بنواب القروض ونواب المخدرات والقمار والتهريب وماصى دماء الشعب من نمور وحيتان وصقور وغيلان. والفورة العارمة وتوحش العلاء ازداد عنفا بعد ثورة يناير وتوقف الحياة وسيطرة الإرهاب علي البلاد تحت ظل الحكم الإخواني المدمّر واستمر جنونه يحطم ويدمر مع بدابة الحرب الروسية الأوكرانية.
رغم أن الحياة في طفولتي وصباي كانت مثالية لكني أتذكر ما كان يقصه علينا الأجداد ويصفون أيامنا بالغلاء الفاحش حيث كانوا يشترون العشر بيضات بقرش صاغ ورطل اللحم بعشر مليمات وحزمة الفجل الكبيرة بمليم، ويتعاملون بالسحتوت والبارة التي انقرضت والحمد لله علي أيام طفولتنا. وفي هذا الصدد أتذكر زجل المجلس البلدي لعمنا بيرم التونسي، وبيرم هذا رغم أنه تونسي الأصل لكنه مصري حتي النخاع وابن بلد من الدرجة الأولي، قاسي الأمرين حين نفي إلي فرنسا أيام الملك فؤاد حتي عاد لعشق روحه وموطنه الحقيقي مصر أيام الملك فاروق. ويقول في زجله المجلس البلدي الذي انتقد فيه المجلس البلدي ومدي جوره علي الغلابى والمساكين، كما أرخ فيه لسعر حزمة الفجل الذي وصل سعرها هذه الأيام الغبرة لجنيهين كاملين أي 2000 مليم، مما يؤكد أن جنيه اليوم لا يساوي أكثر من نصف مليم الماضي الجميل، حيث قال في زجله:
قد أوقع القلب في الاشجان والكمد .... هوى حبيب سمي المجلس البلدي
أمشي وأكتم أنفاسي مخافة أن .... يعدّها عامل المجلس البلدي
ما شرد النوم عن جفني القريح سوى ... طيف الخيال خيال المجلس البلدي
إذا الرغيف أتى فالنصف آكله ... والنصف أتركه للمجلس البلدي
وإن جلست فجيبي لست أتركه ... خوف اللصوص وخوف المجلس البلدي
وما كسوت عيالي في الشتاء ولا ... في الصيف إلا وكسوت المجلس البلدي
كأن أمي بلل الله تربتها ... أوصت وقالت أخوك المجلس البلدي
أخشى الزواج إذا يوم الزفاف أتى ... أن ينبري لعروسي المجلس البلدي
وربما وهب الرحمان لي ولدا... في بطنها يدعيه المجلس البلدي
وإن أقمت الصلاة قلت مفتيا ... الله أكبر باسم المجلس البلدي
أستغفر الله حتى في الصلاة عدت ... عبادتي نصفها للمجلس البلدي
يا بائع الفجل بالمليم واحدة ... كم للعيال وكم للمجلس البلدي ؟