كتب - محرر الاقباط متحدون ر.ص
القى البطريرك الماروني مار بشاره بطرس الرَّاعي، بطريرك لبنان عظة في اطار احتفال الكنيسة بتكريس لبنان والشرق الأوسط لقلبي يسوع الأقدس ومريم الطاهر.
تحتفل الكنيسة اليوم بعيد قلب يسوع الأقدس، وتردّد صدى دعوته في الإنجيل "تعالوا إليّ أيّها المتعبون والثقيلو الأحمال وأنا أريحكم، وتعلّموا منّي: إنّي وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم" ( متى 11: 28-29).
يسعدنا في هذه المناسبة أن نجدّد تكريس ذواتنا ولبنان وكنيستنا المارونيّة والشرق لقلب يسوع الأقدس، وهو تكريس بدأه المكرّم البطريرك مار الياس بطرس الحويّك في 10 أيلول سنة 1899، ثمّ جدّده في 26 أيّار 1922. وها هي اليوم المئويّة الأولى للتكريس الثاني. وقد نظم هذا اللقاء اللجنة البطريركية للتكريس برئاسة اخينا سيادة المطران شكرالله نبيل الحاج وصاحب السيادة المطران بيلوني. اني اشكركم مع الآباء واعضاء اللجنة على هذا التنظيم وعلى هذه الدعوة.
أمّا تكريس الكنيسة والعالم الأوّل لقلب يسوع الأقدس فأنشأه البابا لاون الثالث عشر سنة 1899. وبشكلٍ ممثال كرّس المكرّم البابا بيوس الثاني عشر العالم لقلب مريم الطاهر سنة 1942.
إنّ عبادة قلب يسوع الأقدس بدأت تاريخيًّا بوقفات تأمّليّة في قلبه المطعون بالحربة منذ القرن الثالث عشر مع القدّيستين ماتيلدا (+1298) وجرترود (+1301) في ألمانيا. ثمّ أطلق هذه العبادة في القرن السابع عشر القدّيس جان أود، واضعًا لها نصوصًا ليتورجيّة، وتحديدًا في تشرين الأوّل 1672. وراحت هذه العبادة تنتشر في العالم على يد الراهبة القدّيسة مارغريتا ماري ألاكوك، من راهبات الزيارة في دير باراي لومنيال في باريس، وقد أظهر لها الربّ يسوع قلبه مرّتين في كانون الأوّل 1673 وحزيران 1675، فأدخلت عبارة "القلب الأقدس". أمّا في كنيستنا المارونيّة فدخلت عبادة قلب يسوع الأقدس سنة 1691 في كاتدرائيّة مار الياس بحلب، أي بعد ست عشر سنة من ظهور قلب يسوع للمرّة الثانية للراهبة القدّيسة مارغريت ماري ألاكوك. فبُنيت كنائس ومزارات على اسم قلب يسوع، وتأسّست أخويّات في عدد من رعايانا. وتأسست عائلة قلب يسوع وانتشرت في كثير من المناطق، وهكذا راحت عبادة يسوع الاقدس تدخل في عمق قلب المؤمنين والمؤمنات.
إنّنا من معين قلب يسوع الأقدس نرتوي المحبّة والرحمة والغفران، ومن فيض نعمه نتقدّس ونتجدّد في إنسانيّتنا. إلى مدرسته نعود لنتعلّم الوداعة والتواضع، وننبذ الكبرياء والإدّعاء. إليه نلجأ لنصمد في المحن بثبات الإيمان والرجاء. إلى نبضات قلبه المحبّ نصغي ليدلّنا إلى فهم الأمور المعاكسة لإنتظاراتنا.
لقد اعتدنا منذ تسع سنوات على تكريس ذواتنا وكنيستنا ولبنان والشرق لقلب مريم الطاهر، فإنّا نجدّد اليوم هذا التكريس، وكلّنا إيمان بأنّ أمّنا السماويّة مريم العذراء، سيّدة لبنان، لن تترك وطننا في ظروفه الصعبة، ولن تترك أبناءها وبناتها في مصاعبهم التي تفوق الوصف. وعلى الرغم ممّا تعاني شعوب بلدان الشرق الأوسط من حروب ونزاعات وتهجير وحصار، ومن بينهم المسيحيّون، فإنّا نكرّس هذا الشرق لقلب مريم الطاهر والحنون، وفينا "رجاء ضدّ كلّ رجاء" (روم 4: 18)، بأنّها وهي "أمّ الشعوب" لن تتركهم يتخبطون في معاناتهم. ليس التكريس مجرّد فعل تقويّ بل هو فعل إيمان ثابت على صخرة الرجاء، بأن لا أحد أقوى من الله، لا بنفوذه ولا بسلطته ولا بماله ولا بسلاحه ولا بكبريائه.
ونحن في لبنان، لا يمكن أن نطيق بعد الآن هذا النوع من الممارسة السياسيّة الذّي دمّر اقتصاد الدولة ومالها العام، وعطّل أجهزة الرقابة على الوزارات والإدارات، ورمى الشعب في حالة من الفقر المطبق. نحن بحاجة إلى قيادة جديدة متجرّدة تتميّز بروح المسؤوليّة، وبالمعرفة بالشؤون الإقتصاديّة، وقادرة على إنهاض البلاد من الأزمة الإقتصاديّة الخانقة، وتتميّز بالوعي والشجاعة لإطلاق ورشة الإصلاحات في البنى والقطاعات الأكثر إلحاحًا. وفوق كلّ ذلك، لبنان بحاجة إلى الإستقرار السياسيّ كمدخل لحلّ هذه الأزمات. هذا الإستقرار منوط بحكومة تتحمّل كلّ مسؤوليّاتها كسلطة إجرائيّة، وإلى رئيس جديد للجمهوريّة يطلق نهجًا بنّاءً.
عندما كان المكرم البطريرك الياس الحويك يكرّس لبنان والكنيسة لقلب يسوع الاقدس، كانت البلاد تمر بظروف صعبة للغاية ومنها الحرب الكونية الاولى وبداية حياة لبنان الكبير، وكان الخروج من هذه الازمات دائمًا حسب رغبات قلب يسوع الاقدس.
ليس الوقت وحالة البلاد الراهنة يسمحان بالإختلاف حول شكل الحكومة، ولا بالتساؤل حول حصول الإنتخابات الرئاسيّة. هذان إستحقاقان دستوريّان لا مجال للخلاف حولهما. فالبلاد بحاجة إلى السلطة الإجرائيّة التي يتقاسمها بحسب الدستور كلّ من رئيس الجمهوريّة (المواد 49-53)، ورئيس مجلس الوزراء (المادة رقم 6)، ومجلس الوزراء (المواد 65-72). فبدون هذه السلطة الإجرائيّة بمكوّناتها الثلاثة لا يستطيع لبنان التفاوض مع صندوق النقد الدوليّ، وإجراء الإصلاحات، وطلب المساعدات، والتزام قرارات مجلس الأمن، وإنهاء ترسيم الحدود البحريّة، والتنقيب عن الغاز، ووضع استراتيجيّة دفاعيّة مشتركة، وحلّ مشكلة اللاجئين والنازحين، وعقد مؤتمر حواري، وإعادة لبنان إلى حالته الطبيعيّة كدولة ذات حياد إيجابي ناشط، وفرض هيبة الدولة أمنيًّا وإداريًّا، قانونًا وعدالة، بعيدًا عن التدخّل السياسيّ والمذهبيّ.
نحن اليوم نعيد تكريس لبنان لقلب يسوع الاقدس ولقلب مريم الطاهر.
هذا ما نلتمسه من قلب يسوع، وقلب مريم، في هذا التكريس، تمجيدًا للثالوث القدّوس، الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.