مدحت بشاي
ونحن نحتفل ونعتز بأيام ثورة 30 يونيو كان للكاتب الصحفى كرم جبر رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام تصريح بديع يقول فيه «إن مصر لن تعود لنا إلا إذا عدنا نحن إليها، وإلا إذا عاد المفكرون والمثقفون المصريون إلى صدارة المشهد التنويرى»، مضيفًا «إننا استطعنا أن نخرج جماعة إرهابية من الحكم، والآن يمكننا أن نحارب من أجل إخراج الأفكار المتطرفة».. وهى بالفعل حرب، علينا فى مقابلها أن نفعّل وننشر رسائل التنوير وأن تكون قضية الوعى والتنوير من أهم ما تطرحه وتناقشه فعاليات الحوار الوطنى.
وهو ما أشار إليه الرئيس عبد الفتاح السيسى بتأكيده على مفهوم وحقيقة أن مصر فى مواجهتها لقوى الإرهاب الظلامية تعيش وتواجه «حرب وجود»، وبالفعل وبالقياس لكل الحروب التى خاضها الشعب المصرى كان الأمر يتوقف فى درجة الخطورة على مواجهة جيوش نظامية لإعادة أرض محتلة وإزالة آثار عدوان ونزاعات على حدود، ولم نكن فى مواجهة عدو غادر من بيننا يستهدف تدمير «الهوية المصرية» بفجاجة وتخلف بهذا القدر المفزع، فهويتنا فى النهاية تظل علامة ثبات لوجودنا التاريخى والإنسانى والثقافى والحضارى فوق هذه الأرض العظيمة، وعلى ضفاف النهر الخالد.
فى مقالة له، نشرها منذ أكثرمن 85 سنة فى صحيفة «كوكب الشرق»، أشار عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين إلى الحوار الذى دار بينه وبين موظف فرنسى يعمل فى المصلحة المسؤولة عن إقامة الأجانب فى فرنسا حول مسألة الهوية، وكان أديبنا الراحل مبعوثًا من الجامعة الأهلية ليكمل دراسته فى السوربون، فرنسا عام 1914، فاستدعاه هذا الموظف ليراجع معه أوراقه.
وسأله عن جنسيته، وأجاب طه حسين: أنا مصرى!، غير أن الموظف الفرنسى يعيد عليه السؤال مرة أخرى: أسألك عن جنسيتك لا عن البلد الذى ولدت فيه، أنت ولدت فى مصر، لكن مصر لا جنسية لها، لأنها ليست دولة مستقلة، وإنما هى ولاية تابعة للسلطنة العثمانية، فأنت إذن لست مصريًا، بل أنت رعية من رعايا السلطان العثمانى!.
الآن، ومصرنا وطننا العزيز البلد الحر المستقل، هل يقبل أحد بما جاء فى كتاب «معالم فى الطريق»، عندما وصف المفكر الإخوانى سيد قطب الوطن بأنه «ما هو إلا حفنة من تراب عفن». وفى حوار مع المرشد العام السابق كان قد أدلى به للكاتب الصحفى الرائع «سعيد شعيب» قال تلك المقولة الخائنة: «طظ فى مصر واللى جابوا مصر واللى فى مصر»؟!.
لقد قال القيادى المنشق عن جماعة الإخوان، طارق أبو السعد، إن جماعة الإخوان لا تؤمن بأى من مبادئ الوطنية أو الأرض أو السيادة والاستقلال الوطنى.. ولعل فى هذا الشعر، الذى قاله أحد شعراء جماعة الإخوان، ما يعبر عن وجهة نظر تلك الجماعة فى ما يتصل بفكرة الوطن، حيث تقول أبياته:
ولست أدرى سوى الإسلام لى وطنًا.. الشام فيه ووادى النيل سيان
وكلما ذكر اسم الله فى بلد.. عددت أرجاءه من لب أوطانى
ومن منا يمكنه نسيان ما حدث على الجانب الآخر المنافس المرافق للإخوان، التيار السلفى وقياداته.. من أرشيف «إسلام أون لاين» كتب «صلاح الدين حسن» متابعًا أولى خطوات صعودهم إلى سطح المشهد السياسى: «عقد السلفيون مؤتمرات حاشدة فى عدة مناطق فى مصر منها الإسكندرية، ومرسى مطروح، والمنصورة، لمناقشة الأوضاع فى مصر على خلفية الثورة الشعبية التى تفجرت فى (25 يناير 2011) وكان من بين هذه المؤتمرات ما عقد فى المنصورة يوم (18 فبراير 2011م) وحضره آلاف من أنصار الدعوة، وتحدث فيه الشيخ «محمد حسان»- أحد مشاهير السلفيين- عن ضرورة مراجعة الاجتهادات السلفية فيما يتعلق بالدخول إلى حلبة السياسة والمشاركة فى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية.
وقد أبدت المؤتمرات السلفية الأخيرة هواجس من احتمال تغيير هوية الدولة العربية والإسلامية، أو تعديل المادة الثانية من الدستور التى تنص على أن الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع. وقال محمد حسان آنئذ: «البلد يصنع من جديد.. ونحن سلبيون»، وأكد حسان أن السلفيين وراء التاريخ، وأن أهل العلم يجب أن يكونوا متواجدين فى الأزمة، وخطاب حسان يعبر عن قلق سلفى من تشكل الخارطة السياسية الجديدة فى مصر دون أن يكون للسلفيين أو رؤاهم حضور فى المشهد!!.
أرى أخيرًا أهمية متابعة الخطاب الدعوى والإرشادى- ولا أقول الدينى لمنح فرص للاجتهاد الملتزم الطيب الواقعى والوسطى والمعاصر- فى المسجد والكنيسة وعبر كل الوسائط الإعلامية والمنتديات الثقافية.. نعم خطاب تنويرى داعم للحفاظ على الهوية المصرية فى كل مؤسسات التنشئة والتربية والتعليم لدعم قيم الولاء والانتماء والوطنية... خطاب دعوى إنسانى متطور لتكريس مفاهيم المواطنة والتسامح.. لا لمدارس ومنتديات ومصارف ومشاريع اجتماعية باتت أوكارًا لضرب الهوية المصرية بأفكار ذات غطاء دينى مزيف من جانب بشر نثروا فى الأجواء غاز الكراهية وغرسوا فى الأرض بذور الفتن.
نقلا عن المصري اليوم