كمال زاخر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
11 ـ من أنت أبى الأسقف؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تأسيساً على ما لحق بالأديرة من تطور، وقد استعرضنا طيف منه فيما سبق، فإنه من الطبيعى أن ينعكس هذا التطور على مخرجاتها، وانساق المعيشة داخلها، وغير بعيد تدور ماكينات المطابع لتغذى العقل القبطى بسيل من كتيبات تغازل الحلم الملكوتى وربطه بالوهج الرهبانى، وفى تواز تشهد الكتيبات والرهبنة اقبالاً غير مسبوق، ربما لأن الأولى تحيل القارئ إلى نماذج مخملية يستعيض بها عن عدم التحقق الآنى فى حياته، فيما تعوضه الثانية عن قصور الخدمة فى كنيسته المحلية ورتابتها، وفقاً لما ترسخ فى ذهنه من صور مثالية وطوباوية عن ما يقع خلف الأسوار.

كانت الرهبنة وقتها تجذب اليها الشباب الواعد من خريجى الجامعات، كل يبحث عن تحقق فى دائرة ما، وبقدر كادت تفرغ المجتمع من كوادر ـ قبطية ـ كان يمكنها أن تحفظ له توازنه واندماجه، وكانت رسامات الأساقفة تفرغ الأديرة ممن كانوا مؤهلين ليرسخوا نسق التلمذة، كلمة السر فى قوة الأديرة والرهبنة والكنيسة. بدا الأمر شبيهاً بمن يصطاد "زريعة السمك" فيدمر تنمية الثروة السمكية.

لم تكن هناك قواعد عامة ومجردة تحكم الاختيارات، وكاد دير بعينه، فى حبرية البابا شنودة الثالث، أن يستأثر بالاختيار من بين رهبانه، وقد اتخذه البابا البطريرك آنذاك محلاً لخلواته، ولا نستطيع أن نقطع بأن بعضاً ممن تسللوا الى الرهبنة وهم محملين باختلالات مجتمعية ونفسية كانوا بعيداً عن تلك الرسامات، ويدق الأمر مع إغلاق مدرسة الرهبان بحلوان وتحول مقرها إلى مقر اقامة اسقف حلوان فى حبرية البابا كيرلس السادس. فلا تلمذة ولا إعداد ولا تأهيل، فقط أن يكونوا محل رضا وارتياح رئيس الدير وقداسة البابا. وهو أمر يمكن صناعته.

ومازالت الذاكرة تحتفظ بثلاث وقائع تتعلق باختيارات تلك الفترة، الممتدة من سبعينيات القرن المنصرم وحتى مطلع العقد الثانى من القرن الحالى.
• الأولى جاءت فى سياق نذر الصدام بين الرئيس السادات وقداسة البابا، فى واحدة من خطابات الرئيس الغاضبة، قوله بلهجة حادة موجهاً رسالة للبابا البطريرك بشأن رساماته لشباب صغير السن فى رتبة الأسقفية،"أنا قولت له بيض لحاهم يا شنودة"!!.

• والثانية فى لقاء لى تم فى بيتى مع واحد من أبرز الأساقفة العموميين، والذى امتد لنحو ثلاث ساعات، وكان محوره الحديث عن اشكاليات ادارة الكنيسة، ورؤية العلمانيين فى تفكيكها ومعالجتها، وأذكر أنه كان مستمعاً جيداً ومنفتحاً فى الحوار ومتفهماً لإطروحاتى، وفى نهايته قلت له؛ نيافتك اسقف ومن ثم عضو فى مجمع الأساقفة أعلى سلطة فى الكنيسة، فلماذا لا تناقش قداسة البابا فى هذه الاشكاليات، وانتما متساويان فى الدرجة الكهنوتية، فنظر إلىَّ مندهشاً؛ وقال (أنا اناقش قداسة البابا!!، دا أنا كنت بلبس "شورت" وكان قداسته اسقفاً له ثقله) ولم أعلق. واحترمت فيه صراحته، وادركت كيف يرسم قداسة البابا خريطة المجمع.

• أما الثالثة فهى حوار مقتضب مع شيخ المطارنة الأنبا ميخائيل مطران اسيوط، جاءت اثناء تواجدى فى مدينة اسيوط، فى مهمة عمل، سألته، لماذا تقاطع جلسات المجمع، وأنت من أنت، وتملك طرح الكثير من الحلول لما نشهده من ازمات وتراجعات، ومعارك بعضها معلن وكثيرها خلف الجدران والأبواب المغلقة، فقال فى هدوء، (انت ترضى للشيبة دى أن تُهان؟، وأمسك بلحيته فى أسى، فقلت بالطبع لا يا أبى، ولكن من يملك ان يتعرض لك؟، قال: سأذهب وأحضر اجتماعات المجمع، وسيستقبلنى البابا بحفاوة، ربما مبالغ فيها، وأثناء الإجتماعات سيقف أحد الأعضاء حديثى السن والرسامة، ويكيل لى ما يعن له من كلام غير منضبط، "وبعد ما يكب عياره" سيلتفت اليه البابا ويعنفه، ويطلب إليه التوقف، ويكيل لى المديح ويتحدث عن تاريخى المديد ومكانتى عنده وعند الكنيسة، وأجدنى غير قادر على الرد، وغير قادر على القبول بهذا.) وللمرة الثانية لا أعلق.

وأمامى ثلاثة كتب لكتَّاب معاصرين، أولهما كتاب "مقومات الأسقف وركائزة" للأب المطران الأنبا بفنوتيوس، مطران سمالوط،، وصدر ضمن سلسلة "ابحاث القانون الكنسى"، سبقه بكتاب "حتمية النهوض بالعمل الكنسى"، واتبعه بكتابين الأول "هل الأسقف رئيس أعمال الكهنوت أم رئيس سر الكهنوت؟"، والثانى "رسالة توضيحية: ان البابا والأساقفة هم رؤساء أعمال الكهنوت وليسوا رؤساء سر الكهنوت".

وكتابان للراهب القس اثناسيوس المقارى، الأول "معجم المصطلحات الكنسية" (ثلاثة أجزاء) وصدر ضمن سلسلة "مقدمات فى طقوس الكنيسة، والثانى "الكهنوت المقدس والرتب الكنسية" (جزءان) وصدر ضمن سلسلة طقوس أسرار وصلوات الكنيسة.

اللافت أن كلاهما، المطران والراهب، يطرحان رؤى متقاربة فى التعريف والتأصيل الكتابى والآبائى، رغم اختلاف ظروف الكتابة، فبينما تأتى كتابات الأب الراهب فى سياق التأصيل التاريخى المجرد، تأتى اطروحات الأب المطران فى سياق الرد على طرح مخالف يتبناه مطران معاصر يحتل موقع الصدارة لدى البابا البطريرك، فى سابقة تحسب له، خاصة أن اطروحات ابينا المطران صدرت فى حبرية البابا السابق الذى كان يسبغ حمايته على الأب المطران صاحب الرأى المخالف.

فالأسقف، ابتداءً، يحمل لقباً يختص به الرب يسوع المسيح، راعى نفوسنا واسقفها بحسب قول القديس بطرس فى رسالته الأولى، وحين اطلقته الكنيسة على من اختارته لتقيمه فى رتبته هذه كانت تقصد أن تشبه رعايته للشعب برعاية المسيح ـ طبعاً بشكل مجازى ـ ولم تقصد أن تقيمه متسلطاً على الكنيسة أو حاكماً عليها كما فى عالم السياسة، وتؤكد عليه أن مهمته يحتاج إلى معونة الهية تسانده فى قيادة الرعية الى منابع الحياة فى المسيح، متشبهاً بمنهج الرب يسوع المسيح الذى "كان يطوف كل الجليل يُعلّم فى مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت، ويشفى كل مرض وكل ضعف فى الشعب" (متى 4 : 23).

ويرى الأب المطران فى طرحه أن الدرجة الإكليروسية "ليست درجة أرضية وظيفية ولا هى درجة سمائية بل هى درجة جهادية، بمعنى أن القائم فيها دائم الجهاد من أجل خلاص نفسه ومن أجل خلاص الشعب المؤتمن عليه".

ويرى أن الأب الأسقف "ليس مجرد حصوله على الرتبة يُفترض فيه اكتمال القداسة ظاو المعرفة، فالأمر كله مازال طريقا مفتوحاً أمامه ..." وينقل الكاتب لرجال الإكليروس تحذير سفر الأمثال "لا تكن حكيماً فى عينى نفسك"(أمثال 3 : 7)، وألا تكون النفسانية قد غطت أفكاره وصار باراً فى عينى نفسه متصوراً القداسة لذاته من خلال تعليمه للآخرين كقول الكتاب "لا تكونوا معلمين كثيرين يا إخوتى، عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم لأننا فى اشياء كثيرة نعثر جميعنا" (يعقوب 3 : 1 و 2).

وفى كلمات قاطعة يحذر الأنبا بفنوتيوس فى كتابه "مقومات الأسقف وركائزه"، من أن يتعصب الأسقف لفئة ايمانية معينة حتى لإيمانه الأرثوذكسى، ويؤكد الفرق بين التمسك بالإيمان وبين التعصب له، ويقول "ليس هناك قداسة أو وقار حقيقى لإنسان متعصب، يُسفّه ويقلل من قدر الطوائف الأخرى كالكاثوليك والبرتستانت وغيرهم، فيجلس الأسقف فى محفل عام ويهدم مفاهيم هذه الطوائف ... إن الإنسان الطائفى المتعصب لا يستطيع أن يقنع أحد بتشنجه وانتقاضه فكره أو قهر الناس لقبول رأيه، فقط اطلب من الله أن يهب الناس فهماً كما أُعطيت".

أما كتاب "الكهنوت المقدس والرتب الكنسية" فيذهب إلى ما سجلته الكنيسة فى قرونها الأولى وبخاصة مجموعة كتب المراسيم الرسولية ـ ثمانى كتب ـ ويشير إلى أنه قد تم الإنتهاء من تأليفها مع أواخر القرن الرابع الميلادى، ويذكر أن الكتاب الثانى منها "يضم تعليماً مستفيضاً عما يجب أن يكون عليه الأسقف فى كل مناحى حياته، سواء الشخصية أو الكنسية أو الليتورجية، وقد تُرجمت السبع كتب الأولى منها إلى اللغة العربية، وانتشرت انتشاراً واسعاً فى الشرق تحت اسم (الدسقولية).

ويورد الكاتب مقتطفات منها، فيذكر "حول أهم صفات الأسقف: لأجل الأساقفة، هكذا سمعنا من ربنا يسوع المسيح، أنه يجب على الراعى المقررة رسامته أسقفاً على الكنائس فى كل ايبارشية أن يكون بغير لائمة ولا علة، طاهراً من كل أنواع الشر الشائعة بين الناس. ليس بأقل من خمسين سنة لأجل بيته, وقد هرب من الانحرافات الشبابية وأقوال الوثنيين، وصار طاهراً من الإهانات التى يأتى بها قوم من الإخوة الكذبة على كثيرين."

ويستطرد "ويجب عليه أن يكون وديعاً متواضعاً هادئاً، صانع سلام، ذا سريرة جيدة، طاهراً من كل ظلم وشر، وكل اغتصاب، متيقظاً متأنياً غير قلق، وغير سكير، وغير مخاصم، غير محب للفضة، وليس غرساً جديداً لئلا يتعظم قلبه، فيسقط فى فخاخ الشيطان".
ويذكر فى فقرة أخرى نقلاً عن نفس المصدر "لا يحب النصيب الأكبر، ولا يخطف، ولا يكابر، ولا يكون كثير النميمة، ولا يشهد بالزور، ولا يحب المقاومة، ولا يدخل فى أعمال هذا العالم، ولا يكفل أحد، ولا يحب الرئاسة، ولا يكون ذا قلبين، ولا ذا لسانين، ولا يحب سماع الأباطيل والنميمة ولا الدينونة، ولا يشتاق إلى أعياد الأمم".

وتحت عنوان "فى التعليم المنوط بالأسقف" يكتب نقلاً عن كتاب المراسيم الرسولية:
"ليكن الأسقف ممتلئاً من كل تعليم وكاتباً. وليكن على كل حال ماهراً فى الكلمة، وفى سن صالح"
"وليكن صابر القلب فى وعظه، يعلم كل حين، ويدرس ويجتهد فى الكتب الربانية، ويستمر فى القراءة، ليفسر الكتب بتأن، ويفسر الإنجيل باتفاق مع الأنبياء والناموس والأنبياء متفقاً مع الإنجيل"
"ليأمر الأسقف العلمانيين باجتهاد، مقنعاً إياهم ليقتدوا بسلوكه، وليكن صديقاً لكل أحد، صديقاً ذا مروءة، وكل شئ حسن فى الناس فليقتنه الأسقف لنفسه".

وتحت عنوان "معيشة الأسقف وتصرفه فى أموال الكنيسة" نقرأ:"ينال الأسقف طعامه وشرابه بالقدر الذى يكفيه لكى يقدر أن يستيقظ لتعليم الجهال، ولا يكن مغالياً فى غذائه أو مميزاً نفسه، وعيشته لا تكون بلذة ولا يأكل المختار من الطعام" "ولا يكن بذخاً ولا أعجمياً، يزين لباسه، بل يستعمل ما يناله لقيام الجسد فقط".

ويورد الكاتب هامشاً يقول فيه "عند ابن كبر نقرأ ما يلى "ينال (الأسقف)من الطعام والكسوة بقدر الكفاية، كما يليق بالحاجة والعفاف، ولا يزين لباسه، بل يتخذ ما يصلح لستر جسده لا غير. واسقف يلبس برفيراً أو حريراً، أو يزين مائدته بأطعمة مختلفة، وفقراء مدينته جياع أو عراة، ليس هو اسقفاً".

عزيزى القارئ أقاوم اغراء استكمال النقل، فضلاً عن إغراء التعقيب، فيتحول المقال إلى كتاب، وربما اكثر، لذا اتمنى أن تجد تلك المصادر مكاناً على مكاتب آبائى الأساقفة، وتجد عندهم من الوقت ما يسمح بقراءتها.
فيما نستكمل نحن قراءتنا لمزيد من المشاهد الإكليروسية.