د. سامح فوزى

تعتبر التيارات الإسلامية، وبالأخص جماعة الإخوان المسلمين، السيطرة على وجدان الناس معركتها الأساسية، وتستخدم في سبيل تحقيق ذلك أدوات عدة في مقدمتها التعليم. ومن الدلالات المبكرة على اهتمام جماعات الإسلام السياسي بالتعليم، كإحدى أدواتها الدعوية الأساسية، أن حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين كان مدرساً، وأدرك أهمية التعليم في تنشئة “الفرد المسلم” و”المجتمع المسلم”، الذي يمهد لهيمنة الجماعة على الصعيدين الاجتماعي والسياسي[1].

 
وتُعد المدرسة – في الخبرة المصرية – مجالاً مؤسسياً خصباً لترويج الأيديولوجية الإسلامية، حيث يقضي الطلاب والطالبات فترة طويلة نسبياً بها، ويتشربون أسلوب التفكير، وطرائق الحياة داخلها، وتتسع دائرة تفاعلهم مع المدرس خارج حدود المدرسة، من خلال ما يُعرف بمجموعات التقوية الدراسية التي تحتضنها أيضاً جمعيات إسلامية؛ ما يجعل النشء الصغير بحاضنة التيار الإسلامي، في مؤسسة التعليم النظامي، وأيضاً في الدروس التعليمية غير النظامية.
 
وقد أخذ شكل تدخل جماعة الإخوان المسلمين في العملية التعليمية صورتين؛ الأولى هي محاولة التأثير على محتوى المناهج الدراسية، والثانية هي العمل على تطويع الحياة المدرسية بما يتماشى مع التصورات الأيديولوجية للجماعة. ويتسق ذلك مع ما تنبه له علماء التربية، منذ وقت مبكر، بشأن التفرقة بين المنهج الرسمي Curriculum والمنهج الخفي Hidden Curriculum، ويقصد بالمنهج المواد الدراسية، وأهمها الكتاب المدرسي، أما المنهج الخفي فهو الطريقة والأسلوب الذي يسود العلاقة بين المعلم والطالب، والأنشطة المدرسية الأخرى. وقد يكون المنهج في إطاره الرسمي يحض على التسامح، في حين أن المنهج الخفي، بما يحمله من اتجاهات وسلوك ومشاعر، ينحو في اتجاه التشدد، ونشر ثقافة الكراهية والبغضاء.
 
التعليم أداة تشكيل هوية المجتمع
يستخدم الإخوان المسلمون أدوات التنشئة على اختلاف صورها في تحقيق التغلغل السياسي في المجتمع، وحتى يبرروا الاستخدام الذرائعي Instrumental للتعليم، اتجهوا إلى وضعه في سياق صراع الهوية في المجتمع. وأصبح الغرض الرئيسي للتعليم – في رأيهم – صناعة الهوية في المقام الأول. ولا شك في أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين التعليم والهوية، ولكن تحويل التعليم إلى مجرد أداة لفرض هوية خاصة وتعميمها حتى تصبح هوية المجتمع بأسره يمثل قمة الاستخدام الذرائعي للتعليم، الذي عادة ما يأتي على حساب وظيفة التعليم الأساسية في نقل المعارف، والخبرات لأجيال متعاقبة.
 
ويفسر خالد الزعفراني، القيادي الإخواني السابق، في كتابه “الإسلام هو الحل”، الاستخدام الأداتي للتعليم في إطار رؤية الجماعة للصراع مع “الغرب المسيحي”، حيث يذهب إلى أن هذا الغرب أبعد المسلمين عن الإسلام، وأخضع التعليم لـ “الهيمنة المسيحية”. وأضاف أن تدريس “المدارس العلمانية” في بلادنا للمناهج الغربية، واللغات الأجنبية زعزع عقيدة الطلاب في الإسلام، ودعا إلى مراجعة المناهج الدراسية حتى تكون متفقة مع الإسلام، وحذف كل الأفكار الواردة والمستوردة من الخارج، وإحلال القيم الإسلامية محلها، ليس هذا فحسب، بل إعداد “المدرسين الأتقياء” لحمل هذه المهمة الدينية في ظل دولة تستخدم الإعلام ومؤسسات التعليم في زرع الإسلام في عقول وأفئدة الناس، وخدمة الدعوة الإسلامية[2].
 
من هذا المنطلق فإن التعليم، وفق رؤية الزعفراني، يستند إلى عدد من المرتكزات؛ أهمها: أن مضمون العملية التعليمية، أو المنهج، لابد أن يكون إسلامياً، يقدم القيم الإسلامية، ويبتعد عما سمّاه القيم الغربية، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإن أسلوب التعليم، أو ما يسمى “المنهج الخفي” ينبغي أن يكون إسلامياً؛ ما يستدعي أن يكون المعلم تقياً، يستطيع أن يحمل المهمة الدينية الموكولة إليه، وهي تشكيل جيل إسلامي التوجه والهوى، وفق رؤية الإخوان المسلمين.
 
وهكذا يتضح أن التعليم هو أداة جماعة الإخوان المسلمين التي وضعت نفسها وكيلاً عن الدولة الإسلامية المتصوّرة في صراعها لتشكيل وجدان وعقول النشء على المبادئ الإسلامية، التي بالطبع لا مكان فيها لمعلم مختلف دينياً، ولا لمنهج علمي متطور، بدعوى تبعيته للغرب، ولا لتعددية داخل السياق التعليمي.
 
في هذا السياق أنشأ البنا معهد “دار حراء” للبنين في طابق أعلى مقر الجماعة بالإسماعيلية، وعندما استقر العمل به اتجه إلى إنشاء مدرسة “أمهات المؤمنين” للفتيات، ووضع لها منهجاً إسلامياً، حسب تصور الجماعة.
 
“الاستثمار الإسلامي” في التعليم
رافق إفساح الرئيس الراحل محمد أنور السادات المجال أمام جماعة الإخوان المسلمين، والجماعات الإسلامية الأخرى، تبنيه سياسة الانفتاح الاقتصادي؛ ما شجع القطاع الخاص “الإسلامي” على العمل في مجالات عدة. ومن هنا دخل التعليم ما يمكن أن نطلق عليه “منطقة الصيد” Catching Area، أي صراع أطراف عديدة من أجل الاستحواذ والهيمنة عليه، وتحقيق الكسب المادي.
 
كان جُل نشاط الجماعات الإسلامية في الجامعات في هذه المرحلة، أي مؤسسة التعليم العالي، بهدف تقليم أظافر الشيوعيين والناصريين الذين كانوا يؤرقون الرئيس السادات، وفي الوقت نفسه اتجهت البرجوازية “الإسلامية” الصاعدة، إن صح التعبير، إلى الاستثمار في مجال التعليم ما قبل الجامعي، أي المدارس.
 
وانطلاقاً من هذا، ظهر العديد من المدارس والحضانات “الإسلامية”، التي دشنت ما يسمي النموذج الإسلامي في التعليم حتى قبل التحاق الطفل بالتعليم النظامي. واهتم عمر التلمساني، مرشد الإخوان المسلمين في ذلك الحين، بإنشاء المدارس التابعة للإخوان، فبدأها بمدارس “المنارات الإسلامية”، وظهرت تباعاً مدارس إسلامية عديدة؛ مثل “الجيل المسلم”، و”الدعوة الإسلامية” و”التربية الإسلامية”، و”الرضوان”، و”المدينة المنورة”، و”أمجاد”، و”الفتح الإسلامي”، و”الزهراء”، وغيرها من المدارس التي نشأت في القاهرة والإسكندرية ومحافظات الوجه البحري، التي أسستها شخصيات تابعة للإخوان مباشرة، أو جمعيات أهلية أنشأتها الجماعة[3].
 
وتبنت هذه المدارس مجموعة من الاتجاهات المتشددة والطائفية، سواء من خلال فرض الحجاب على الأطفال، وحظر التحاق التلاميذ المسيحيين بها، والتحذير من التعامل معهم، وتكثيف الدروس الدينية والأناشيد الإخوانية الحماسية، والصلاة الجماعية في فناء المدرسة، ومنع الاختلاط بين الجنسين، حتى في مراحل التعليم الابتدائي، والاستعاضة بالأناشيد الإسلامية بدلاً من النشيد الوطني مثل “بلادي بلادي.. سأرويكِ حين الظما بالدم.. وربِّ العقيدة لن تُهزمي.. ومَن أكمل الدين للمسلمين.. سنحمي الجبالَ وتلك التلال.. ويحيا الجهادُ، وبه يكتب النصر للمسلمين”[4].
 
 واتجهت المدارس والحضانات الإسلامية إلى تدريس مناهج إسلامية إضافية، واللافت أن هذه المناهج حصلت على إذن رسمي بالتداول من وزارة التربية والتعليم في فترة من الفترات. نشير في هذا السياق إلى كتابين كليهما من إصدار “دار سفير”، وهي دار تملكها قيادات إخوانية، ومتخصصة في نشر المطبوعات الإسلامية عامة، والمعبِّرة عن أيديولوجية الجماعة بصفة خاصة. أما الكتاب الأول فهو “المسلم الصغير”، والذي حصل على موافقة وزارة التربية والتعليم عام 1988، والذي يدشّن أسلوباً اجتماعياً إسلامياً، يتعين على التلميذ انتهاجه، مثل الأدعية الخاصة عن التثاؤب، والدخول إلى دورات المياه، والزي الواجب ارتداءُه، وغيرها من الموضوعات، التي تشكل وجدان الطفل على شاكلة الصورة النمطية للعضو في التنظيم الإسلامي. وأما الكتاب الثاني فهو مخصص لتفسير آيات دينية، وقد أشار المؤلف فيه إلى أن المسيحيين واليهود من المغضوب عليهم والضالين. وقد وُزّع الكتاب على التلاميذ الصغار في المرحلة الابتدائية، وهي سن تكوين الاتجاهات الأساسية، وتشرُّب المعايير والقيم الثقافية. وعليه، فإن خلق طفل يحمل وجدان الحركات الإسلامية في الصغر، هو بالتأكيد مشروع “راديكالي” في المستقبل، سواء حمل السلاح أو لم يحمله[5].
 
صراع على المنهج المدرسي
لم تكتفِ جماعة الإخوان المسلمين بإنشاء تعليم إسلامي موازٍ في مرحلة ما قبل الجامعة، بل مدت أذرعها الطلابية بالجامعات، بما في ذلك الجامعة الأمريكية في قلب القاهرة، بل إنها اتجهت أيضاً إلى التأثير على التعليم الحكومي الرسمي الذي يضم الغالبية العظمي من التلاميذ، خاصة من الطبقتين المتوسطة والفقيرة في المدن والريف على السواء. وتشكل عادة هاتان الطبقتان المجال الرئيسي للتجنيد بالنسبة للجماعة. فالإخوان المسلمون، بحكم تكوينهم، هي حركة طبقة وسطى، مهنية، تركز دائماً على الحضور والانتشار والتأثير في صفوف المهنيين، دون أن تُغفِل حشد الطبقات الفقيرة عن طريق تقديم الخدمات الاجتماعية، والمساعدات العينية المباشرة لها، ولاسيما في العقود الماضية التي شهدت انسحاباً تدريجياً للدولة المصرية من مجال الرعاية الاجتماعية، تحت وطأة إجراءات الإصلاح الاقتصادي، قبل أن تعود مرة أخرى إلى هذا الميدان بمشروعات تنموية كبرى بعد عام 2014؛ إدراكاً منها بأهمية دور الدولة في التنمية، واستعادة المواطنين من أحضان التنظيمات الدينية، التي استلبت الهوية الوطنية وجعلت منهم مجرد زبائن لها، بالمعنى السياسي، في الانتخابات والحشد على مستوى الشارع.
 
ولم يخفِ “الإخوان” رغبتهم في السيطرة على التعليم الحكومي، وتحدث نوابهم في مجلس الشعب منذ دخولهم الحياة البرلمانية في عام 1984، عن ضرورة أن تعكس المناهج المدرسية القيم الإسلامية، وأشاروا صراحة إلى أهمية تنقية الكتب المدرسية في المرحلة الثانوية من الفلسفة، التي تحض على الإلحاد والعلمانية، وإفساح المجال أمام الطلاب “الملتزمين دينياً” لقيادة الشأن الطلابي في المدارس والجامعات[6].
 
وقد أجرى الباحث تقييماً لمحتوى المقررات المدرسية في منتصف تسعينيات القرن العشرين، وكشف الدور الذي لعبه الإخوان المسلمون في اختراق التعليم لتمرير آراء وأفكار تخدم مشروع الجماعة، وتجافي مفهوم الدولة الوطنية الحديثة.
 
وفي هذا السياق يمكن رصد عدد من السمات الأساسية في المناهج الدراسية، أهمها: اعتبار الإسلام الطريق الصحيح الوحيد في الحياة، وأن ما عداه باطل، وهو ما يجافي بشكل مباشر مفهوم التعددية الدينية، ويمتد أيضاً إلى تحريم التعددية السياسية باعتبار أن الإسلام دين ومشروع سياسي، ولا يعلو عليه دين آخر أو مشروع سياسي منافس. وطبقاً لمناهج الدين الإسلامي، على سبيل المثال، التي دُرِّست في المدارس في النصف الأول من التسعينيات، فإن الأديان الأخرى محرَّفة وتفتقد نقاء الإسلام. ليس هذا فحسب، بل اعتبار الشيوعية أيديولوجية سياسية غير إلهية، تؤسس نظاماً اجتماعياً يقوم على الإلحاد والنظرة المادية للحياة، ولذلك فقد تداعت، وهذه هي النهاية الحتمية لكل الأنظمة غير الإسلامية. وقد انطوت المقررات الدراسية في مادة الدين الإسلامي في مراحل التعليم المختلفة على إشارات واضحة على دور المسلم في تغيير المنكر بالوسائل كافة، بما يشمل ضمناً استخدام العنف في مواجهة مظاهر الحياة العصرية على النحو الذي شهده العديد من أحداث العنف، وهو ما يشكل الأساس الفكري الذي تستند إليه الجماعات الإسلامية الراديكالية فيما تقوم به من أعمال عنف، سواء حيال دور العرض السينمائي والمسارح وحفلات الزواج والمرأة غير المحجبة، واعتبار ذلك من موجبات الشريعة الإسلامية التي ينبغي أن تطبق في المجتمع بدون مواءمة أو تبديل[7].
 
واللافت للنظر أن المناهج الدراسية اتجهت إلى ما يمكن تسميته “أسلمة” منجزات الحضارة الغربية، التي تتهمها ذات المناهج بالكفر والعلمانية والمادية، حيث كثرت الدعوات في الكتب المدرسية إلى الإفادة من الإنجازات البشرية في خدمة الدعوة الإسلامية؛ مثل استخدام مكبرات الصوت في الدعوة إلى الصلاة، أو استعمال شرائط الكاسيت في نشر خطب كبار الدعاة، وغيرها[8]. ويعكس توجه الجماعة إلى أسلمة المنجزات المادية للحضارة الازدواجية التي تعيشها من تبني الحضارة المادية التي يمكن أسلمتها ورفض القيم الثقافية المصاحبة لها، باعتبار أنها وافدة من الغرب المسيحي أو العلماني الكافر. ويرى نبيل عبدالفتاح أن ذلك يعني أن الحركة الإسلامية ترى في التكنولوجيا الحديثة مجرد “وسائل” أو “أدوات” يمكن استخدامها واستغلالها، حتى وإن كانت ضد الغرض الذي صنعت لأجله[9].
 
“أسلمة” الحياة المدرسية
سعى الإخوان المسلمون في معركتهم للسيطرة على التعليم إلى “أسلمة” المدرسة سلوكاً ونشاطاً وتفاعلاً؛ وهو ما يعني وجود وعي مبكر لديهم بأهمية “المنهج الخفي”، الذي سبقت الإشارة إليه، فهم يدركون – وذلك ثابت في أدبياتهم – أن تمكين المشروع الإسلامي لن يأتي إلا من خلال السيطرة على وجدان الناس، وهي عملية معقدة لا تقتصر على منهج مدرسي يعرفون مسبقاً أن الطلاب يتعاملون معه على أنه مستند واجب السداد في الامتحان دون أن يمر على شاشاتهم الإدراكية أو وجدانهم أو ما يمكن أن نطلق عليه “الذات العميقة”، التي تتأثر من خلال خبرة التعامل، والاحتكاك، والأحاديث الشخصية بين المعلم والتلميذ، والأنشطة المدرسية.
 
في هذا الإطار، اتجه الإخوان المسلمون إلى إضفاء أيديولوجيتهم السياسية على النشاط المدرسي عبر حزمة من الإجراءات؛ أهمها: إلغاء النشيد الوطني في بعض المدارس، خاصة في المناطق البعيدة التي تكون بها إدارة موالية لهم، واستبدال أناشيد إخوانية مكان النشيد الوطني الذي يُعزف صباحاً في كل مدارس مصر، وفي بعض الحالات حين يضطرون إلى عزف النشيد الوطني، يتبعونه بهتاف الجماعة الشهير “الله أكبر.. لله الحمد”، وشهدت المدارس الخاضعة لتأثير الإخوان المسلمين في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، أيضاً، جملة ممارسات؛ منها وقف الأنشطة الفنية، وعدم السماح للفتيات بممارسة الرياضة، وفرض الزي الإسلامي على الفتيات، وحظر صور الاختلاط في المنشآت التعليمية كافة، والحد من التفاعل بين الطلاب المسلمين والمسيحيين، وعدم تنظيم أية فاعليات ثقافية، وإغراق مكتبات المدارس بالكتب الدينية التي تقدم وجهة نظر الإخوان المسلمين في الشؤون العامة، واستبعاد الكتب العلمية والأدبية[10]. ويتذكر كاتب هذه السطور عندما كان طالباً بالمرحلة الثانوية في منتصف الثمانينيات أن زميلاً له في الفصل المدرسي كان لا يشارك في طابور الصباح، وكانت الإدارة المدرسية على علم بذلك؛ لأنه كان يعتبر ذلك كفراً بواحاً، وأن علم الدولة وثن لا يجوز تحيته وتعظيمه.
 
وزارة التعليم تنتفض
شهدت تسعينيات القرن العشرين تصاعداً للعمليات الإرهابية، وبدأت مؤسسات الدولة تكثف تحركاتها لمواجهة الإسلام السياسي. في تلك الأثناء تولى وزارة التربية والتعليم وزير مسيَّس، له خبرة طويلة في منظمة الشباب في الستينيات، وهو الدكتور حسين كامل بهاء الدين، وقد اتخذت وزارة التعليم في عهده منحى صارماً في مواجهة مناخ التطرف في المدارس، وخاصة مع بروز أصوات عديدة، وكتابات لمثقفين يساريين وليبراليين تحذر من تصاعد نفوذ الإسلام السياسي في مؤسسات التعليم.
 
تحركت وزارة التربية والتعليم آنذاك على مسارين أساسيين: الأول هو مراجعة المناهج الدراسية، وحذف كل الآراء والأفكار التي تحض على العنف والكراهية، ووضعت بدلاً منها آراء تدعم التسامح والمواطنة. وشمل المسار الثاني ملاحقة ممارسات التطرف في المدارس، واستعادة التصور الطبيعي للمدرسة بوصفها مؤسسة تنشئة وتكوين للنشء تعليمياً وثقافياً واجتماعياً.
 
وفي مجال تنقية الكتب المدرسية من الآراء التي تحض على التطرف، فإن دراسة محتوى المناهج المدرسية في منتصف التسعينيات تكشف عن مراجعة لمناهج التعليم، إذ بدأت أفكار حديثة تعرف طريقها للكتب المدرسية، سواء التي توجه نقداً لثقافة الإرهاب والتطرف، أو التي تندد بأية ممارسات عنيفة أو إجرامية ترتكب باسم الإسلام. وقد بدا واضحاً في هذه المرحلة أن وزارة التربية والتعليم اتجهت إلى حذف الآراء الصريحة والفجة التي تحض على التطرف، وعملت على إدخال آراء أخرى تصب في تعزيز ثقافة التسامح. وقد اعتبر كثير من المشتغلين بالتربية هذه الاجراءات ضرورية في مواجهة التطرف، لكنها ليست كافية، حيث كان المأمول في تلك الفترة الاتجاه نحو تكثيف الثقافة المدنية؛ مثل حقوق الإنسان، والمواطنة، والديمقراطية في المقررات الدراسية، وهو لم يتحقق في نظرهم[11].
 
وفي مجال مواجهة ثقافة التطرف في الحياة المدرسية، أصدر وزير التعليم د. حسين كامل بهاء الدين القرار رقم (113) الذي حدد زياً خاصة للطلاب والطالبات في المدارس الحكومية والخاصة على السواء، وحظر ارتداء التلميذات في التعليم الأساسي للحجاب، وأن يكون ارتداؤه في المرحلة الثانوية بموافقة ولي أمر الطالبة، وحظر القرار ارتداء النقاب في المدارس مطلقاً. وقد أعرب “الإخوان المسلمون” رفضهم القرار، وحثوا المنتمين إليهم على تحريك دعاوى قضائية لإلغائه، وبعد مارثون قضائي أيدت المحكمة الإدارية العليا عام 1999 قرار وزير التعليم المشار إليه. ورغم ذلك، اتجه “الإخوان” إلى إثارة القضية سياسياً، وهو ما كشف عنه الوزير في حوار صحفي معه عندما ذكر أن الإخوان المسلمين يعتبرون الحجاب في المدرسة شأناً سياسياً، وعلامة على سيطرتهم على الشارع المصري، ويُمثل ذلك رسالة مزدوجة للنظام في الداخل، وللقوى الأجنبية في الخارج[12].
 
وقد اتجه وزير التعليم إلى التأكيد على ممارسة الأنشطة الفنية والثقافية والرياضية في المدارس، وتنقية المكتبات المدرسية، واستعادة الأجواء الطبيعية للعملية التعليمية، ووقف أية محاولات لفرض مناخ التطرف في المدارس، وذلك من خلال لجان للمتابعة، قام بتشكيلها خارج السياق الإداري البيروقراطي، وجعل تبعيتها مباشرة له، نظراً لما لاحظه من وجود محاولات متعمدة من بيروقراطية الوزارة لتشويه قراراته، وتصويرها على غير حقيقتها.
 
وفي حوار أجراه الكاتب مع الدكتور حسين كامل بهاء الدين أثناء إعداده أطروحة الماجستير حول المساءلة في الإدارة العامة، أخبره بأنه منذ اليوم الأول لتوليه الوزارة لاحظ أن هناك ما يشبه “التعايش السلمي”- حسب تعبيره – بين الوزارة والمدارس، مفاده أن تتخذ الوزارة ما تشاء من سياسات، وتطبق المدارس ما تشاء منها، وقد كان ذلك مصدر سعادة للطرفين، أي الوزارة والمدارس، وهو ما كان سبباً في بعض الأحيان في تشويه السياسات الحكومية عندما يجري تفسيرها على غير مقاصدها؛ ولذلك كان البديل الملائم أمام الوزير الجديد في ذلك الحين هو تشكيل لجان مراقبة مستقلة تخضع لإشرافه المباشر، ولا تتبع الجهاز الإداري لوزارة التعليم[13].
 
ولعل أهم ما قام به الدكتور حسين كامل بهاء الدين، وزير التعليم، خلال تلك الفترة، هو تحويل المدرسين الذين ثبت قيامهم بنشر ثقافة التطرف إلى وظائف إدارية؛ ما يحول دون اتصالهم بالطلاب. وبالرغم من عدم وجود إحصاءات دقيقة في هذا الصدد، فإن الوزير أكد في حوار له مع شبكة CNN الإخبارية أن عدد المدرسين الذين جرى تحويلهم إلى أعمال إدارية يبلغ 1600 مدرس، نظراً لقيامهم بفرض ارتداء الحجاب على الطالبات دون موافقتهن، وكذلك دون رضا أولياء أمورهن، فضلاً عن ترويج آراء متطرفة داخل الفصل الدراسي[14]. وقد ذكرت مصادر الإخوان المسلمين أن عدد المدرسين الذين جرى تحويلهم إلى أعمال إدارية بلغ 3000 معلم، معظمهم من المعلمات اللاتي يرتدين الحجاب، وقد تحولت هذه القضية إلى معركة سياسية خاضها وزير التعليم مع النواب المنتمين إلى الإخوان المسلمين في مجلس الشعب، حيث ذكر الوزير أن نقل المدرسين إلى أعمال إدارية جاء استناداً إلى تقارير “لجان المراقبة” و”الجهات الأمنية”، وخضعوا للتحقيق بسبب ضلوعهم في نشر التطرف في المدارس[15].
 
حكم الإخوان: تجدد معركة التعليم
 
شهدت الفترة التي أعقبت 25 يناير 2011 صعود التيار الإسلامي، وتُوِّج ذلك بتولي الرئيس الأسبق محمد مرسي مقاليد السلطة لعام واحد (2012-2013)، شهد ما اصطُلِح على تسميته “أخونة الدولة”، وكان التعليم بالطبع أحد المجالات الأساسية التي سعي “الإخوان” للسيطرة عليه بأدواتهم المعتادة: التوسع في إنشاء المدارس الخاصة الإسلامية، وتوجيه محتوى المناهج الدراسية في اتجاه ترويج آراء متطرفة، فضلاً عن الهيمنة على المدارس باعتبارها أدوات تعبئة للمشروع الإسلامي. وقد أفاد مسؤولون في وزارة التعليم في بيانات عامة بأن الإخوان المسلمين استهدفوا أطفال المرحلة الابتدائية من أجل ترويج أيديولوجيتهم المتشددة في هذه السن الصغيرة[16]. وقد قام وزير التعليم خلال فترة حكم الإخوان، إبراهيم غنيم، بالاستعانة بكوادر الإخوان في الأماكن القيادية في الوزارة، ولاسيما تلك المواقع التي تتصل مباشرة بوضع وتطوير المناهج التعليمية[17]، بل وعيَّن إعلاميين في مكتبه الإعلامي من العاملين في الصحف والمواقع الإلكترونية التابعة لجماعة الإخوان المسلمين مباشرة[18].
 
وقُدِّر عدد المدارس الإخوانية التي أنشئت في عهد مرسي بنحو 76 مدرسة[19]. وتشير مصادر إعلامية إلى أنه قدم كل التسهيلات لجماعة الإخوان المسلمين لاختراق نقابة المعلمين، فأمر بتعيين أحمد الحلواني نقيباً عاماً لها، والذي عمل على أخونة النقابة مستغلاً في ذلك وجود قطاع من المعلمين والمعلمات ينتمون إلى الجماعة. وقد وجهت له لاحقاً اتهامات عديدة من بينها استغلال أموال النقابة في دعم اعتصامَيْ «رابعة والنهضة»، عقب سقوط حكم الإخوان المسلمين في 30 يونيو 2013[20].
 
وفي أعقاب ذلك قامت الحكومة بتشكيل لجنة رفيعة المستوى لمراجعة محتوى المقررات الدراسية، بهدف استبعاد الآراء المتطرفة التي أدرجت في الكتب المدرسية خلال حكم مرسي. ولم تشمل عملية مراجعة المقررات الدراسية استبعاد الآراء المتشددة في المناهج فحسب، بل انطوت على مراجعة الطريقة التي يقدم بها المحتوى التعليمي للطلاب، ليس فقط في مادة الدين، وإنما في سائر المقررات الدراسية أيضاً، حيث لوحظ أن دروساً في العلوم والآداب والقيم الإنسانية قدمت في سياق ديني متشدد.
 
وفي هذه المرحلة، ثار جدل حول روايتين مقررتين على طلاب المدارس؛ هما “عقبة بن نافع”، و”وا إسلاماه”، ومؤلف الرواية الثانية، علي أحمد باكثير، من المنتمين للإخوان المسلمين، وقد ركزت الروايتان على “الجهاد الإسلامي”، وهو مفهوم أثار استخدامه بواسطة التيارات الإسلامية التباساً واسعاً، وأسيء توظيفه في الصراع السياسي بين الجماعات الإسلامية والأنظمة الحاكمة في العالمين العربي والإسلامي، وامتد أيضاً إلى الفضاء الدولي. وقد رؤي أن المدرسين ذوي الميول المتشددة كانوا يستخدمون كلتا الروايتين في الترويج لأفكار متطرفة، وقد أثار استبعاد الروايتين جدلاً واسعاً، امتد إلى أروقة البرلمان، الذي يتمتع بعض السلفيين من حزب النور بعضويته، حيث اعتبروا تعديل المناهج الدراسية على هذا النحو تبديلاً للهوية[21].
 
وفي بداية العام الدراسي عام 2014 أحالت الحكومة نحو مئتي معلم إلى وظائف إدارية؛ بسبب انتمائهم إلى الإخوان المسلمين، وقد ذكر أحدهم في تصريحات لوكالة “الاناضول” التركية، أنه سيلجأ إلى القضاء للطعن على القرار، مثلما كان يحدث في السابق، أي قبل وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة في منتصف عام 2012 [22].
 
الاتجاه إلى التربية المدنية
يتضح مما سبق أن آليات الحكومة في مواجهة تغلغل الإخوان المسلمين في ملف التعليم طيلة الثلاثين عاماً الماضية اتسمت بوضع “رد الفعل” المتمثل في مواجهة الأفكار والآراء والتأثيرات السلبية في المناهج والأنشطة المدرسية من ناحية، وإحالة المدرسين الذين ثبت ضلوعهم في نشر التطرف إلى وظائف إدارية من ناحية أخرى، ولم تمتد إلى إرساء التربية المدنية في المدارس، التي تمثل البنية الأساسية لمواجهة التطرف في المؤسسات التعليمية. ومن ثم يمكن الإشارة إلى مجموعة من الأمور التي ينبغي اتخاذها، والتي من شأنها تحويل التحرك الحكومي من “رد الفعل” إلى “الفعل”.
 
من ناحية أولى، من الأهمية تدريس حقوق الإنسان في المدارس، ولاسيما في ضوء إصدار الدولة الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان (2021-2026)؛ ما يسهم في رفع مستوى الوعي بحقوق الإنسان الأساسية[23]. وتشير الدراسات إلى أن تعليم حقوق الإنسان في المدارس يُنشّئ الأطفال في مرحلة مبكرة من حياتهم على عدد من القيم المهمة؛ مثل التعددية الثقافية، والتسامح، والمساواة؛ ما يجعلها تستقر في وجدانهم وضمائرهم، ويعبرون عنها كتابة وقولاً[24]. ويشكل ذلك ضماناً أساسياً ضد نشر ثقافة التطرف، والأحادية الفكرية، وكراهية الآخر المختلف.
 
من ناحية ثانية، يمثل نشر ثقافة المواطنة ضرورة لتشكيل وعي الطفل، أي المواطن الصغير، وإعداده للمشاركة العامة في المستقبل. يتعلم الطالب الحقوق والواجبات، ويدرك أهمية القانون والعدالة، والكرامة الإنسانية، وتحقيق المساواة بين المواطنين كافة بصرف النظر عن الاختلاف في اللون أو الدين أو الجنس أو العرق[25]. وتمثل المواطنة نقيضاً مباشراً لخطاب التطرف الديني، إذ بينما تنصب المواطنة على المساواة بين المواطنين، وتحقيق العدالة، واحترام التنوع، تنزع مشروعات التطرف الديني إلى التمييز بين المواطنين حسب الدين والنوع، وتدشن أنماطاً من الاستعلاء بين البشر، فضلاً عن معادة مفهوم الحرية بمعناه المطلق.
 
وأخيراً، فإن الارتباط بين المدرسة والسياق المحلي مسألة ضرورية في تشكيل وجدان النشء على الخدمة العامة، والعمل التطوعي، والمشاركة، وإدراك أهمية مواجهة الأمراض المجتمعية مثل الفقر والتهميش، والانخراط في المبادرات التنموية؛ الأمر الذي يجعل الصورة الذهنية للأجيال الصاعدة تتشكل من خلال خبرة مواجهة المعاناة، والارتقاء بنوعية الحياة، واحترام الإنسانية بمعناه الواسع.
 
وتشكل هذه القضايا محاور أساسية لمواجهة التطرف في التعليم، ليس فقط على صعيد التصدي الآنيّ المباشر، أي تنقية المناهج وتعقب المدرسين المتطرفين، ولكن أيضاً من خلال إرساء بنية ثقافية ممتدة تشكل في ذاتها شبكة أمان اجتماعي، ثقافية وإنسانية، في مواجهة التطرف، وغيره من مظاهر التحلل السياسي والثقافي التي تهب رياحها على المجتمعات.
نقلا عن موقعtrends