كمال زاخر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
12 ـ قطع البازل واعادة تركيب الصورة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بين الثقافة والسياسة والكنيسة تشكلت ذهنية القادم الجديد للكرسى المرقسى، ربما بنفس الترتيب، فيما يشهد المجال العام تغيراً دراماتيكياً، برحيل الرئيس جمال عبد الناصر وقدوم الرئيس السادات، وعلى الرغم من كونهما جاءا معاً عبر حركة ضباط يوليو إلا أنهما كانا كذراعى المقص، أو طرفى نقيض، نحن نقف هنا عند اعتاب سبعينيات القرن المنصرم، ونشهد واحدة من متلازمة الكنيسة والدولة، إذ يغيب الموت البابا كيرلس السادس بعد أن غيب الرئيس عبد الناصر قبله بفارق خمسة شهور وبضعة أيام، كانت اشكالية البابا والرئيس الجديدين تشابهما فى البحث عن مخرج من وهج سلفيهما، كل فى مجاله، وفى امتلاكهما لشغف الزعامة، وربما يفسر لنا هذا لماذا تصادما، وذهبا معاً الى نهايات درامية فى علاقتيهما، العزل والاعتقال للأول، والإغتيال للثانى.
فى تتبعنا للسيرة الذاتية للبابا شنودة يقفز سؤال مازال يبحث عن اجابة، على الأقل بالنسبة لى، فالبدايات كانت تشير إلى شاب يتطلع إلى تصويب مسار الكنيسة لتعود إلى ما كانت عليه من تكامل بين الإكليروس والشعب، بحسب المفهوم الاصطلاحى الكنسى، وهو تكامل تأسس فى كنيسة الرسل بحسب رصد سفر الأعمال الذى يؤرخ لسنوات الكنيسة الأولى، بعد صعود السيد المسيح، وحلول الروح القدس فى يوم الخمسين، وانطلاق الكرازة لكل العالم. فإذا بنا أمام منعطف فى توجهاته يأخذنا إلى انفراد الإكليروس بادارة الكنيسة. ويُحكى أنه لم يسترح فى صباه وبواكير شبابه إلى منظر الكاهن وهو يسير فى إثر ناظر الكنيسة العلمانى حاملاً له حقيبته، وقتها كان الناظر يختاره الأسقف من وجهاء القرية أو المدينة، لأسباب اقتصادية، فهو فى الغالب يتكفل باحتياجات الكنيسة أو أغلبها، فى ذاك الزمان، وفى واحدة من لقاءات البابا قال أنه لن يسمح بعودة ذلك المنظر، ولن يعود الكاهن تابعاً للعلمانى، وإذا كان ذاك المشهد وهذا التوجه قد حدثا فنحن نرفع القبعة للبابا شنودة لتصحيحه هذه التبعية ورده لاعتبار الأب الكاهن.
تجمعت عدة عوامل لتجعل من البابا الجديد محل التفاف الرعية، فقد سبق وقدم أوراق اعتماده للجماهير الغفيرة، عبر لقائه الإسبوعى، وقد تحولت عظاته إلى شرائط كاسيت ليدخل كل بيت، وقد طبقت شهرته الآفاق، وكثيرها حملته صفحات كتيبات صغيرة كان يتلقفها الشباب بشغف.
ولفت انظار الشارع المصرى واجهزة الدولة وهو بعد اسقفاً للتعليم حين القى محاضرة فى نقابة الصحفيين، "إسرائيل فى رأى المَسيحية"، 26/6/1966، حتى أن مصلحة الإستعلامات طبعتها وترجمتها إلى عدة لغات ووزعتها على البعثات الدبلوماسية فى العالم. وكان الفارس المجهول الذى رتب هذا اللقاء، الصحفى جرجس حلمى عازر.
وداعب حلم الأقباط التاريخى المتطلع إلى تقارب كنسى مسكونى، يفضى إلى وصل ما انقطع، فيذهب إلى الفاتيكان، ويجرى مباحثات اسفرت عن وثيقة تاريخية تعلن مساحة التوافقات بين الكنيستين، ورغم أنها خطوة كبيرة فى مسار الوحدة ودعمت جهود سبقتها فى طريق طويل للحوار المسكونى، إلا أنها قوبلت برفض صارم من شيوخ المجمع، خاصة رؤساء الأديرة الذين تتلمذ عليهم، لينتهى الأمر إلى التعتيم على الوثيقة، وعدم تفعيلها.
وقد رصد الباحث الإكليريكى كيرلس بشرى ـ ماچستر فى اللاهوت الأرثوذكسى جامعة فيينا ـ مشوار الحوارات المسكونية، والتى بدأت ارهاصاتها الجادة فى النصف الأول من القرن العشرين، فى بحثه (ملخص تاريخ الحوار اللاهوتى بين الكنيسة الأرثوذكسية والكنائس الأرثوذكسية الشرقية القديمة فى العصر الحديث) وصدر فى اكتوبر 2019، ومتوفر PDF على النت.
لم يخرج البابا شنودة عن الأعراف البابوية التى يحرص عليها اسلافه من الاباء البطاركة، وفى مقدمتها دعم مجمع الاساقفة برسامات جديدة من الرهبان الموالين له، والمؤمنين برؤاه ومنهجه، وكانت فرصته أكبر، فغالبية الآباء وقتها كانوا من الشيوخ وكانت ايبارشياتهم مترامية الأطراف وبعضها يضم أكثر من محافظة، ومع رحيل أحدهم يتم تقسيم ايبارشيته إلى عدة ايبارشيات وكان الشعار وقتها، ايبارشية صغيرة لرعاية أفضل، إضافة للتوسع فى رسامة المزيد من الاساقفة العموم بلا مهام محددة، كانت معايير الإختيار توافر الولاء والطاعة، وكانت السمة الغالبة "صغر السن". ومن ثم الخبرة.
اللافت ان اختيارات البابا الجديد عند مستوى الكهنة القسوس انقسمت إلى اتجاهين؛ الأول خدام مدارس الأحد من خريجى الجامعة بغض النظر عن دراساتهم اللاهوتية النظامية، وبعضهم يشغل وظائف متقدمة فى الدولاب الحكومى وفى مجتمع الأعمال والمهن ذات الثقل، والثانى خريجى الإكليريكية من القسم المسائى (الجامعى)، أما خريجى القسم النهارى ـ النظامى ـ فالمتاح أمامهم كنائس ايبارشيات الصعيد والدلتا، وكثيرهم لا يجدون لأنفسهم مكاناً. خاصة بعد ظهور اكليريكيات موازية هناك تغذى احتياجات تلك المناطق. ومن يقترب من تلك الكيانات يكتشف أنها تفتقر لكل المقومات العلمية الأكاديمية المفترض توافرها لتكون معهداً علمياً، فهى أقرب إلى فصول التقوية فى أفضلها.
لم تنتبه الكنيسة للتجريف الذى لحق بالمكون القبطى فى المجتمع العام، وكذلك الذى لحق بالأديرة، جراء تلك الاختيارات، وتختفى التلمذة وينزوى شيوخ الرهبان فى ركن قصى، ومعها تتراجع الأديرة وتخايلها مشروعاتها الزراعية وملحقاتها وتبعاتها وهمومها، وهى الترمومتر الذى يحدد حرارة الخدمة الكنسية وجدواها.
كانت خريطة الهيراركية الاكليروسية تتغير وتمد سلطانها إلى دوائر خدمة العلمانيين، الذين ازيحوا عن دوائر الوعظ فى القداسات، وتأسياً بنهج البابا الجديد صار لكل اسقف اجتماعه الإسبوعى العام حتى لو كان يفتقر الى موهبة الوعظ، فى استنساخ للنموذج البابوى.
كان اقصاء العلمانيون ممنهجاً ربما لأن عندهم مساحة من حرية الحركة لا تتوفر للإكليروس المحكوم بقواعد هيراركية صارمة، ومن ثم لا يمكن السيطرة على توجههم، وظهرت اشكالية توصيف رتبة الشموسية، هل يحسبون من العلمانيين أم تحسب رتبة كهنوتية؟.
وبدأت الكنيسة تشهد ظاهرة التمييز بين الإكليروس الرهبانى والإكليروس المدنى أو العلمانى كما يسمى فى داخل الكنيسة. وبقيت الأفضلية للاكليروس الرهبانى.
ولم يتغير موقف البابا الجديد، وقد طال به الأمد فى موقعه، فى ادارة ملف المجلس الملى عن سابقيه، وقد ساندته خبرته فى العمل العام قبل الرهبنة فى هذا الأمر، فلم يجمد المجلس ولم يصطدم به، لكنه لجأ لوضع قائمة تضم أهل الثقة وأبناء الطاعة والباحثون عن البركة، وطرحها على الناخبين، بتنبية من كهنة الكنائس التى اختيرت كمقار اقتراع، باختيار تلك القائمة حتى لا يدخل المجلس من يعوق اصلاحات البابا، وتتكون جمعية الناخبين ـ وفق لائحة المجلس ـ بأغرب طريقة، اذ انها تتشكل مجدداً فى كل مرة يتم فيها الدعوة لانتخاب المجلس، فيتقدم كل من يريد أن يكون ناخباً الى مراكز تلقى طلبات التسجيل، وفق الشروط المحددة فى اللائحة، وينتهى أمرهم باجراء الانتخابات، ليعود التسجيل مجدداً مع انتهاء مدة المجلس والدعوة لانتخابات جديدة. لنصبح أمام مجلس وجهاء، سبق ونزعت عنه جل صلاحياته بقرارات من الدولة فى دوائر الفصل فى قضايا الاحوال الشخصية، ونزعت منه ادارة المدارس والمستشفيات والاراضى الزراعية بقررات المصادرة والتأميم الاشتراكية.
ورغم أن الاسقف والبابا متساويان فى الدرجة، وأن الترتيب ينحصر فى دائرة الإدارة والتنسيق، فالبابا فى ادبيات الكنيسة لقبه اسقف المدينة العظمى الإسكندرية، ويحسب المتقدم فى الاساقفة، أو المتقدم بين إخوة، شأنه شأن اساقفة الكراسى الخمسة (العظمى)، روما، القسطنطسنية، اسكندرية، انطاكية والقدس. إلا أنه نتيجة عوامل عديدة يتقدمها حنكة الإختيار ومعاييره التى وضعت وقتها، وشخصية البابا تحول كثير من اعضاء المجمع ـ وقتها ـ إلى سكرتارية منفذين لقرارات قداسة البابا. وشهدت الكنيسة أكثر من حالة تم ابعاد الأسقف فيها من ايبارشيته إلى ديره. وكان فارس الإبعاد اسقف المحاكمات الأشهر.
كان هناك تيار يغذى النزعة القومية بطريقة خاطئة لدى شباب الأقباط فى ملف الخلاف العقيدى التاريخى بين العائلتين الأرثوذكسيتين، فى اعادة احياء لأجواء مجمع خلقيدونية (351م)، ويمد الخلاف إلى العلاقة مع الكنيسة الكاثوليكية، على نفس الأرضية، فيما يورد الباحث الإكليريكى كيرلس بشرى فى مستهل دراسته المشار اليها قبلاً، مقالا للأرشيدياكون الدكتور وهيب عطالله (الأنبا غريغوريوس اسقف البحث العلمى لاحقاً) بعنوان "تعليم كنيسة الإسكندرية واخوتها الكنائس الأرثوذكسية الشرقية القديمة فيما يختص بطبيعة المسيح"، وينوه أنها كانت كلمة القاها كاتبها ممثلاً لوجهة نظر كنيسة الإسكندرية فى "المؤتمر العالمى" الذى انعقد بمدينة "القدس القديمة" فى المدة من 12 إلى 15 ابريل 1959. وفيها ينتهى إلى أن الخلاف حول طبيعة المسيح بين الكنائس الخلقيدونية وغير الخلقيدونية هو "خلاف فلسفى صرف"، ويورد نص ما قاله:
(إنى أجرؤ على أن أقرر أن الخلاف بين الكاثوليك ومن يقول بقولهم من اصحاب الطبيعتين كالبروتستانت وبعض الأرثوذكس الذين يعترفون بمجمع خلقيدونية من جانب، وبين القائلين بالطبيعة الواحدة فى السيد المسيح وممن لا يؤمنون بقانونية مجمع خلقيدونية من جانب أخر ـ أقول أن الخلاف بين هؤلاء وأولئك خلاف فلسفى صرف يقوم على أساس التعبير الصحيح الذى ينبغى أن يعبر به عن الإتحاد الكائن بين لاهوت السيد المسيح وناسوته). ويواصل الباحث : وبعد أن شرح الدكتور وهيب عطا الله إيمان الكنيسة غير الخلقيدونية حول طبيعة المسيح، أكد أن الاتحاد بين الطبيعتين هو (سر من الأسرار الإلهية لا يمكن استيعابه ... أنه سر من الأسرار الإلهية، لا يمكن أن نفهمه أو نعيه أو نحتويه فى عقولنا، من هنا سمى فى الاصطلاح الكنسى بسر التجسد الإلهى، فنحن نؤمن بنوع من الإتحاد يفوق كل فهم بشرى وكل تصور).
اللافت أن يعيد الدكتور وهيب عطا الله نشر هذا المقال عام 1961، فى كتاب (تعليم كنيسة الاسكندرية فيما يخص طبيعة السيد المسيح)، الصادر ضمن سلسلة المباحث اللاهوتية والعقائدية، منشورات كلية البابا كيرلس اللاهوتية.
ولم يوجه أحد للدكتور وهيب عطالله وقتها تهمة الهرطقة، التى بدأت تتردد فى اروقة الكنيسة فيما بعد وصارت تتعقب كل من يطرح تأويلاً مختلفاً عن ما يراه من يديرون دفة الكنيسة وقتها، ومازال مريديهم يوجهونها لمن يختلفون معهم.
ازمة الكنيسة فى ظنى هى ما حدث من ابعاد لقائمة ممتدة من المفكرين اللاهوتيين الأكاديميين تحت وابل من النيران الميدانية الصاخبة عبر شبكات العالم الافتراضى استغلالاً لحالة الانفطاع المعرفى اللاهوتى وإحلال التعليم الغيبى الاسطورى محل تعاليم الآباء.