حلمي النمنم
نظر كثير من مجايلى محمد حسنين هيكل إلى علاقته بالرئيس عبد الناصر بكثير من الغيرة «المهنية»، وصلت لدى بعضهم إلى حد الحقد والحسد، ولدى البعض إلى العداء الشديد، وهؤلاء هم الذين رددوا تعبير «الصحفى الأوحد»، الرئيس السادات أخذ بذلك التعبير، بحكم اشتغاله فترة بالصحافة كاتبا فى مجلة «المصور»، قبل سنة ٥٢ وبعدها، ثم رئيسا لتحرير جريدة «الجمهورية» فعايش الوسط الصحفى وعرف جيدا ما يدور به، فكان كلما غضب على هيكل صاح: «عبد الناصر كان قافل الصحافة عليه».
وانتقلت هذه التصورات إلى الأجيال التالية من الصحفيين، وصارت تلك العلاقة حلم الكثيرين إلى يومنا هذا.
بعيدا عن الغيرة أو الإحن الخاصة وربما طموح البعض، فإن هناك من تزيّد وراح يردد أن هيكل هو الذى كان يحرك الرئيس، ثم قالوا، بعد وقائع ١٥ مايو٧١ إن الأستاذ هو الذى يصنع الرؤساء. ومازال هناك من يردد إلى يومنا هذا أنه لولا هيكل ما تولى السادات ولا استقر فى موقع الرئاسة!!.
تاريخيا كان كل حاكم فى بلادنا يختار صحفيًا أو أكثر إلى جواره، بعضهم لم يكن يكتفى بالصحفى المصرى، بل قد يكون هناك مفضلون لديه خارج الحدود، وكان كذلك يتخذ موقفا حادا وربما عدائيا من صحفى أو أكثر، هكذا كان الحال من بداية الصحافة فى بلادنا، من الخديو إسماعيل وحتى حسنى مبارك، ومن ثم لم تكن صلة هيكل وعبد الناصر بدعا فى تاريخنا السياسى ولا فى تاريخ الصحافة، المويلحى الكبير كان إلى جوار الخديو إسماعيل وموضع ثقته.. على يوسف إلى جوار الخديو عباس حلمى وكذلك الزعيم مصطفى كامل، حتى سنة ١٩٠٤.. سعد زغلول اختص العقاد، كان يدعوه ليقضى أيامًا ضيفًا عليه فى البلدة، خارج القاهرة، بينما قدم طه حسين إلى النيابة العامة والمازنى إلى المحاكمة.. محمد التابعى مع مصطفى النحاس، يرافقه فى رحلاته إلى أوروبا، بينما كره النحا س العقاد بشدة وطارده فى عمله ورزقه وتجاهل رغبة «أم المصريين» فى عدم الغلظة مع العقاد.. كريم ثابت كان ضمن حاشية الملك فاروق.. محمد نجيب كان يرحب بالجميع، ويسعد بمن يكتبون عنه، لكنه لم يرحب بهيكل، كثيرون مروا على عبد الناصر وتعاملوا معه منذ يوليو ١٩٥٢وربما قبلها، أحمد أبو الفتح، إحسان عبد القدوس، حلمى سلام، حسين فهمى، مصطفى أمين، كامل الشناوى وآخرون، وجمدت العلاقة مع بعضهم عند مستوى محدد أو انقطعت وبترت مع البعض أو انتهت بمأساة، كلٌّ لأسباب وظروف خاصة به، التفاصيل فى ذلك كثيرة وبعضها مروع.
فى النهاية توقف عند محمد حسنين هيكل، لأسباب عديدة منها أنه كان كتوما، لم يكن يثرثر بما يسمع أو يرى، وعرف حدوده وخطورة الدائرة التى يتحرك فيها، ومساحة الاجتهاد والتجويد المتاحة أمامه، وكان لديه دور إلى جوار الرئيس يفرض أن يستمع منه ويجلس إليه، فى كل بلاد الدنيا يصبح هذا الدور «وظيفة محددة»، فى مقر الحكم وهى أنه يكتب خطب الرئيس العامة أو فى بعض المؤتمرات التى يُدعى إليها، فى التاريخ والتراث العربى نعرف جيدًا وظيفة «كاتب السلطان».
غير أنه من التبسيط المخل تصور أن أيًّا من هؤلاء السادة الصحفيين كان يقوم بدور الموجه أو المحرك للمسؤول الذى يقترب منه، خاصة فيما يتعلق بجمال عبد الناصر، الذى كان قوى الشكيمة، وأمامنا الرسالة التى بعث بها هيكل إلى عبد الناصر، حين فوجئ باختياره وزيرًا دون إحاطته علما أو أخذ رأيه، أى أنه رغم هذا التقارب لم يستطع هيكل الحصول على خبر يخصه قبل إعلانه رسميًا، وهذا يعنى أن ناصر كان مسيطرا بالفعل فلا يتم تسريب خبر لا يريد هو له أن يُعرف. وقد فهم الكثيرون فى البداية أن هذا المنصب يعنى ابتعاد هيكل عن «الأهرام»، وعن الصحافة كلها، أى يصير مسؤولا فقط، بعض الذين عملوا مع الرئيس ذهبوا إلى أن ناصر كان يريد -فعلا- الاحتفاظ بهيكل كوزير ورجل دولة فقط. الرسالة حملها حاتم صادق زوج السيدة هدى وكان يعمل وقتها بالأهرام، الرسالة نشرت بعد سنوات من وفاة عبد الناصر، لكن دون سطورها الأخيرة، انتبه إلى هذه السطور وتوقف أمامها مطولًا الأستاذ عادل حمودة فى كتابه عن هيكل. تؤكد تلك السطور أن العلاقة كانت رئيس بمرؤوس، فيها الود والثقة، يمكن أن نضيف كذلك أن بها قدرا من «العشم» لكن تحت تلك المظلة. لم يكن هيكل يستطيع أن يتحرك خارج هذه الدائرة، لأن عبد الناصر لم يكن يسمح، فضلًا عن أن خصوم هيكل داخل النظام كانوا كُثرًا وكانوا يتربصون ويريدون الإيقاع به، والدليل أنه اعتذر عن عدم نشر رائعة نجيب محفوظ «المرايا» بعد هزيمة ٦٧، ودعم موقفه برأى نقدى كاره للعمل أطلقه د.لويس عوض.
وأسوأ ما قيل، فى تلك الصلة، مصطلح «الصحفى الأوحد»، وهو مسىء للصحافة وللصحفيين جميعًا بأكثر من إساءته- كما تصور مطلقوه- إلى عبد الناصر أو هيكل. من أسف أن هناك من يتصور أن الصحفى لن يكون صحفيًا بحق ما لم يكن قريبا أو وثيق الصلة بالمسؤول الأول، وتصور آخر هو أن الصحيفة لا تقوم إلا بالخبر السياسى فقط وأن ذلك الخبر يتعلق بالمسؤول الأول وحده، وهذا تصور سلطوى جدا وأحادى تماما للصحيفة وللصحافة، سنة ١٩٢١ عاشت الصحافة المصرية أسابيع على جرائم ريا وسكينة، رغم أننا كنا فى ذروة أحداث ثورة ١٩١٩، الشهر الماضى عشنا أيامًا عدة على خبر مقتل «نيرة أشرف»، أمام بوابة جامعة المنصورة، فى امتحانات الثانوية العامة يصبح القائمون على هذه العملية بؤرة التركيز الإخبارى، وهكذا.
بعيدًا عن هذا كله، يمكن للصحفى أن يكون ناجحًا فى عمله دون أن يكون قريبًا من المسؤول، ولنتساءل: هل كان فكرى أباظة مقربًا جدًا من الملك فاروق يومًا أو من اللواء محمد نجيب أو عبد الناصر أو السادات؟.. أحمد بهاء الدين كان معروفا لدى عبد الناصر، لكنه لم يكن مقربا منه، ومع ذلك كان ناجحا ومتألقًا فى المواقع والمؤسسات التى عمل بها. أعرف أنه فى سنة ١٩٦٤ بلغ عميد الأدب العربى د.طه حسين عامه الخامس والسبعين، واحتفت مجلة «المصور» بذلك الحدث، فتلقى أحمد بهاء الدين رئيس التحرير من مكتب الرئيس رسالة تحية وتقدير على هذه اللفتة تجاه الأستاذ العميد، باختصار فى سنوات الخمسينيات والستينيات كان هناك نجوم كبار فى الصحافة ولم يكونوا من المقربين ولا فى الدائرة المحيطة بالرئيس عبد الناصر.
من المعيب أن يقال مثل ذلك التعبير عن الصحافة المصرية، لنتذكر، مع حفظ الألقاب والمقامات، السيدة أمينة السعيد، موسى صبرى، محمود السعدنى، أحمد رجب، فتحى غانم، د.مصطفى محمود، أنيس منصور، محسن محمد، رجاء النقاش، محمود عوض وغيرهم كثر، فى كل مطبوعة يومية أو أسبوعية، كانت هناك أسماء عديدة ملء السمع والبصر، وشهدت هذه الحقبة ازدهار الصحافة النوعية أو المتخصصة، تأسست جريدة المساء، ومجلة صباح الخير ومجلة حواء ثم بعدهما الأهرام الاقتصادى والسياسة الدولية وغيرها من المطبوعات، وحقق كل منها نجاحا وانتشارًا وقدمت نجومًا فى دنيا الصحافة والكتابة، وبحكم اهتمام كل مطبوعة لم يكن مطلوبا ولا سعوا للاقتراب من الرئيس.
وفى تلك الفترة كان هناك صحفى أو أكثر إلى جوار كل مسؤول، مجموعة حول المشير عبد الحكيم عامر، يناطح بها عبد الناصر وهيكل، بل كانت هناك مجموعات من شباب الصحفيين حول شمس بدران، مدير مكتب المشير عامر، هؤلاء كانوا يكرهون عبد الناصر وفق كراهية شمس وظلت الكراهية داخلهم حتى بعد غروب شمس (إثر هزيمة يونيو) وبعد رحيل عبد الناصر، وكانت هناك مجموعة تتحلق حول على صبرى، الذى كان ينشر له مقال يومى، فى جريدة الجمهورية، قيل إن أحدهم كان يكتبه نيابة عنه، فيما يعرف بظاهرة «الكاتب الشبح».
الأمر نفسه بالنسبة لوزير الداخلية القوى شعراوى جمعة.
ورغم كل ما قيل عن ديكتاتورية عبد الناصر فقد كان مستمعا جيدا وترك للآخرين مساحة للرأى، النموذج هو تأميم أو تنظيم الصحافة، فى الستينيات وما بعدها، وبسبب تعنت بعض رؤساء التحرير ومجالس الإدارة، لعن كثير من شباب الصحفيين اليوم الذى تم فيه «تنظيم الصحافة»، لكننا نعرف أنها لم تكن فكرة عبد الناصر، هو كان يريد أن تتوقف بعض الممارسات المهنية، كان يشكو من التوسع فى مساحة نشر أخبار الجرائم والاهتمام بنشر أخبار ما كان يطلق عليه وقتها «المجتمع المخملى»، كان يريد التركيز على قضايا الإنتاج وهموم بسطاء الناس، فاقترح إحسان عبد القدوس فكرة التأميم وساندها هيكل، وهما من اختارا كلمة «تنظيم»، بدلا من التأميم، حتى لا تتهم الصحافة ولا تتهم الدولة بأنها تسيطر على الصحافة، برر الأستاذ إحسان موقفه بأن مؤسسة روز اليوسف التى يملكها كانت على وشك الإفلاس ومن ثم الإغلاق، لذا أراد أن تتدخل الدولة لتحل هذه المشكلة وتبقى المؤسسة، الأهرام أيضا وقتها لم تكن فى وضع مالى جيد، وكان ملاكها قد أخذوا فى الهجرة إلى الخارج، تحسن وضع الأهرام ماليًا وتقدمت جدا بفضل حماية الدولة وصلة هيكل بعبد الناصر، مصطفى وعلى أمين باركا التأميم وتحمسا له أكثر من إحسان وهيكل، حتى لا يقال إنهما ينحازان إلى ملكيتهما الخاصة «أخبار اليوم».
كانت الخطوة فعليًا تعبيرا عن اختيار ومصلحة مؤسسية، بين النافذين فى المهنة، لم تطر ح عليهم من خارجهم، هذه الفكرة قدمت إلى الدولة وإلى الرئيس على أنها لمصلحة وتأمين النظام نفسه، وأنها موضع اتفاق بين كبار الصحفيين وأصحاب المؤسسات.
والحديث ممتد.
نقلا عن المصرى اليوم