فاروق عطية
مرّ الصبي أنور في طفولته بمرحلة حالمة، كان يحلم فيها بأن يكون إتسانا آخر، إنسان ذو شأن وكيان يختلف عن شخصيته الحقيقية البائسة التي كان يعيشها في كنف أبيه المزواج المتسلّط وأمه المستعبدة الخانعة. وفي مرحلة الشباب تحول من الفتى الحالم إلى الإنسان الهارب المتسكع، ومنها إلى الإنسان الممثل. كان في كل مرحلة من حياته يمثل دورا براه مناسبا. في منتصف الثلاثينات أعلنت الممثلة والمنتجة عزيزة أمير حاجتها لوجوه جديدة للتمثيل بأحد أفلامها "فيلم تيتا ونج"، وكانت تطلب ممن يتقدم أن يرسل لها صورة فونوغرافية ثم يذهب بعد ذلك إلي مقر شركنها بشارع إبراهيم باشا لأداء المعاينة والاختبار. أرسل إليها أنور صورته ومعها خطاب واصفا نفسه فيه: قوامي نحيل وجسمي ممشوق وتقاطيعي متناسقة، أنا لست أبيض اللون ولكني لست أسودا، إن وجهي أسمر ولكنها سمرة مشربة بالحمرة. ووقع بإمضائه: أنور الساداتي. وحين ذهب للمعاينة والاختبار لم يحظ بالقبول. ولكن للحقيلة ميوله التمثيلية قد أفادته كثيرا في حياته.
في عام 1941م دخل أنور الساداتي السجن لأول مرة أثناء خدمته العسكرية وذلك إثر لقاءاته المتكررة لعزيز باشا المصري الذي طلب منه مساعدته في الهروب إلي العراق، بعدها طلبت منه المخابرات العسكرية قطع صلته بالمصري لمبوله المحورية لكنه لم يعبأ بهذا الإنذار، فدخل إثر ذلك سجن الأجانب في فبراير 1942م. وخرج من سجن الأجانب أثناء عنفوان الحرب العالمية الثانية،
إبان تواجده بالعلمين تعرف علي الدكتور يوسف رشاد الذي كان يؤدي الحدمة العسكرية معه. بفضل صديقه حسن عزت وعلاقاته في العمل السري أصبح أنور منتميا لخلية سرية تباشر نشاطا خفيا، وهذا منحه نوع من الأمن الداخلي يعطيه الإحساس بالفخر أنه جزء من شيئ أكبر وأقوى من كونه فردا عاديا. في هذا الجو تعرّف أنور علي اثنين من الجواسيس الألمان هما "إبلر" و "ساندي".
يقول السادات في كتابه "صفحات مجهولة": (بدأت القصة بطرقات خفيفة علي باب منزل صديقي الصاغ حسن عزت، ودلف للداخل شخصان ألمانيان يصحبة صديق لهما هو الأستاذ عبد المغني سعيد، وقدم ثلاثتهم لي الصاغ حسن عزت. كان ابلر يعرف مصر جيدا كما يعرفها أبنائها "لأن أمه الألمانية بعد وفاة زوجها تزوجت في ألمانيا من المرحوم المستشار صالح بك عسكر وحضرت معه إلى مصر ومعها ابنها هانز ابلر"، وكان الألمانيان مكلفان من المخابرات الألمانية للتجسس علي القوات البريطانية داخل مصر. تقابل عزيز المصري باشا مع الجسوسين وتفاهم معهما علي ما يجب عمله وأصدر أوامره لمجموعتنا بتسهيل مهمتهما. وفمت بالناحية التي تتصل بعملي في سلاج الإشارة، وحددت معهما موعدا لزيارتهما وفحص الجهاز اللاسبكي المعطل لإصلاجه ونشغيله. وعلمت منهما أنهما يقطنان في عوامة خاصة بالراقصة المشهورة حكمت فهمي التي كانت ترتبط بابلر بعلاقة عاطفية. كان الجسوسان يعيشان كبريطانيان بصورة لا تثير الشبهات، يسهران ليلا في الكيت كات والعودة قرب الصباح مخموران إلى العوامة التي اتخذاها محطة ارسال ويقومان بالاتصال بقيادة مخابراتهما. وكان الجسوسان بعيشان حياة ماجنة مع بنات الهوى ومعظمهن من اليهوديات. وقد انكشف وكر الجاسوسية بعد أن تكلمت إحدى اليهوديات الاتي كان ابلر يمارس معهن العلاقات الحميمة مقابل أجر متفق عليه لكنه أعطاها أجرا أقل فغضبت، ووشت للمخابرات البريطانية ببعض ما لاحظته في العوامة من ظواهر أثارت شكوكها، وكانت النتيجة القبض على الجاسوسين، وبعد يومين تم القيض عليّ وعلي حسن عزت، بعد أيام صدر أمر بتشكيل المجلس العسكري لمحاكمتنا، ولم يحصل المجلس العسكري منا علي اعترافات أو إجابات، فوضعنا تحت الإيقاف، ثم طردنا من الجيش في 8 أكتوبر 1942م، وتسلمتنا السلطات المدنية وأودعتنا سجن الأجانب ثم رحِّلنا إلى معتقل ماقوسة قرب مدينة المنيا سجينا للمرة الثانية)،
تمكن من الهرب من المعتقل مع صديقه حسن عزت. عمل أثناء فترة الهروب أحيانا تباعا وأحيانا سائقا على سيارة نقل "مملوكة لصديقه "حسن عزت" تحت اسم مستعار هو الحاج محمد نور الدين. وكان عليه أن يمثل دور التباع أو السائق وقد أداهما بإقناع. كان يجلس مع السائقين والتباعين ويتعامل معهم بنفس الطريقة ويضحك معهم كما هم يضحكون ويدخن معم السجائر التي يفضلون "سجاير هوليود الرخيصة"، حين كان بقوم بدور التباع يعدّ نفسه لأداء الدور بالملابس المناسبة والمكياج المتقن، يرتدي العفريتة والأوفرول وعليه الحزام كما يفعلون. وحين كان يعمل سائقا كان يتقمص دور السائق ويرتدي البنطلون والجاكتة والطاقية الصوف ذات الركنين لتغطية أذنيه كما يفعلون.
وفي مزغونة والحوامدية قام بدور مقاول أنفار، وعند غروب الشمس حين ينتهي العمل يعود إلى الشقة التي كان يستأجرها بمزغونة حيث يغتسل ويصلي ثم ينزل إلى المقهى مرنديا جلبابا بلديا فوقه قفطان ومعمما بشال فوق الطاقية ليحتسي الشاي الإسود أو الحلبة الحصى ويدخن سجاير الهوليود، وكما يفعل مقاولي الأنفار أولاد البلد يحلف أن بعض الطلبات لأفراد معينين يكون علي حسابه. وفي أواخر عام 1944م انتقل إلي بلدة أبو كبير بالشرقية ليعمل مقاولا لنقل الطوب والديش والزلط في مشروع ترعة الصاوي يأبى كبير. ذات يوم كان يجلس بقهوة المحطة وكان لابسا الجلباب البلدي والقفطان ومتعمما ويزين وجهه بذقن صغير (سكسوكة)، وجلس بجواره مقاولا آخر على نفس المنضدة. كان مُجالسه قد أدي فريضة الحج في نفس العام، راح بتحدث عما أداه من مناسك الحج وقال له: أنت طبعا مررت بتلك الأماكن وأديت تلك المناسك، وراح يسأله عن بعض الأمور المحرجة، ولأن الساداتي مجرد متقمص لشخصية حاج دون أن يكون له فكرة عن الآداء، وحنى يتخلص من أسئلة هذا الحاج قام بغناء أعنية (عليك صلاة الله وسلامه) للمطربة إسمهان ويذلك تخلص من الأسئلة التي لا جواب له عنده.
قرب نهايات الحرب العالمية كانت الحياة السياسية في مصر تموج بالحركة والنشاط السرّي كان هدفها الأساسي الحصول على الاستقلال ومختلطا بأهداف أخرى فرعية وقد تكون ذاتية. في تلك الآونة ظهرت جمعية سرية تحت قيادة شاب من أسرة موسرة اسمه حسين توفيق هدفها اغتيال الحنود البريطانيين في القاهرة كعمل من أعمال الكفاح الوطني المشروع. وكان القصر يحاط علما بمعظم هذه الجماعات السربة. وفكر الملك أيضا في تكوين جماعته السرية "الحرس الحديدي".
كان الملك يحطط للانتقام لما حدث له في 4 فبراير 1944م "حاصرت القوات البريطانية قصر عابدين وإجبر السفير البريطاني مايلز لامبسون الملك على التوقيع على قرار باستدعاء حزب الوفد لتشكيل الحكومة بمفرده أو التنازل عن العرش". كان الملك يشعر بالإهانة وأحاطه تعاطف شعبي عارم، وتركز هذا التعاطف في الجيش الذي كان الفاروق قائده الأعلى. وبدأ القصر يفكر في الانتقام، وكان المسؤول عن ذلك رئيس الديوان الملكي أحمد حسنين باشا أضافة للدكتور يوسف رشاد طبيب الملك الخاص"صديق حسن عزت" وتم تشكيل التنظيم السري"الحرس الحديدي". حدد أحمد حسنين باشا للانتقام ثلاثة أهداف: 1، حزب الوفد الذي تولي السلطة بعد الإنذار. 2ـ المندوب السامي البريطاني "مايلز لامبسون". 3ـ مصطفي النحاس باشا وأمين عثمان باشا.
في هذا الجو ذهب زائر غامض لمعسكر الماقوسة لمقابلة المعتقل أنور الساداتي، وكانت هذه الزيارة بداية لمغامرة أخري من مغامرات الهرب إلى الوهم. وحققت دخول انور السادات الي الحرس الحديدي المعد للانتقام من أعداء الملك. لم تمض أيام على هذه الزيارة حتى انتقل أنور من معتقل ماقوسة إلى معتقل الزيتون القريب من القاهرة. وقد تمكن أنور وصديق له من الهرب، وفي اليوم التالي توجها لقصر عابدين مباشرة لتسحيل اسميهما في دفتر التشريفات، ثم عادا مرة أخرى إلى المعتقل. وبعد أيام هرب أنور مرة أخرى واختفى في زحام القاهرة، وتخفى تحت اسم الحاج محمد نور الدين وعمل تباعا "كما سبق ذكره". وفي عام 1945م مع انتهاء الحرب العالمية سقطت الأحكام العرفية وبذلك عاد لحياته الطبيعية بعد قضاء ثلاث سنوات من المطاردة والتخفي.
بعد أيام بنم اللقاء بين أنور الساداتي وحسين توفيق زعيم الحمعية السرية لاغتيال الجنود البريطانيين في كازينو أوبرا في ميدان الأوبرا بالقاهرة. استطاع أنور أن يقنع حسين توفيق بعدم جدوي قتل الحنود وأن الأجدى قتل المتعاونين مع الإنجليز، وحدد له اثنين من المتعاونين مع الانجليز وهما مصطفي النحاس باشا وأمين عثمان باشا. وحاول حسين توفيق القاء قنيلة علي سيارة النحاس باشا تحت اشراف الساداتي ومراقبته لكن السائق زاد من سرعة السيارة لتغادي تراما اعترض الطريق وأنقذ الموقف.
عقد السادات ومعاونيه العزم علي قتل أمين عثمان باشا وزير المالية في حكومة الوفد الذي كان من أشد المؤيدين لبقاء القوات البريطانية في مصر، وكان له قول مشهور يشرح فيه العلاقة بين مصر وبريطانيا واصفا إيها بأنها زواج كاثوليكي لا طلاق فيه، وتمت العملية بنجاح في السادس من يناير 1946م علي يد حسين توفيق، وعلى إثر اغتيال أمين عثمان سيق الساداتي إلي سجن الأجانب دون توجيه تهمة رسمية له. وقد واجه في سجن قرميدان أصعب محن السجن بحبسه انفراديًا. وكان الضابط الشاب صلاح ذو الفقار هو الضابط المسئول في السجن وكان مؤمنًا في قرارة نفسه ببراءة الساداتي وباقي المتهمبن في الفضية، لإيمانه بأنهم مساجين سياسيين، وكان يحضر لهم الطغام والصحف والسجا\ئر كما كان يساعد أسرهم في الحصول عبى تصاريح الزيارة. وبعدم ثبوت الأدلة الجنائية سقطت التهمة عنه وتم الحكم ببراءته والإفراج عنه في أغسطس 1948م، بعد ذلك أقام الساداتي في بنسيون بحلوان كي يتمكن من علاج معدته من آثار السجن بمياه حلوان المعدنية.