محمود العلايلي
على الرغم من أنى شخص عابر بالنسبة لدكتور رؤوف غبور، فإنى التقيت بالرجل خلال ثلاث مراحل، أولاها كانت فى أوائل التسعينيات وكان لقاءً دون أن نتقابل، حيث اشترت العائلة سيارة من توكيل غبور ودفعنا ثمنها كاملًا، ولكننا فوجئنا عند التسلم بالشركة ترد إلينا مبلغ خمسمائة جنيه بداعى أنها أموال زادت عن الحسبة العادلة لثمن السيارة بعد الرسوم والجمرك، وحينها رن فى أذنى اسم رؤوف غبور لأول مرة، وقد اشترت عائلتى حوالى سبع سيارات من نفس النوع على مدار هذه السنوات إلى يومنا دون ذكر لهذا الموقف بالذات وإنما لثقة باطنة تجاه التوكيل والقائمين عليه.
أما اللقاء الثانى فكان فى السياق الذى ذكره الدكتور رؤوف فى مذكراته بتواضع عن نشاطه السياسى فى حزب المصريين الأحرار، فقد كان رؤوف غبور أحد المشاركين فى دعم الحزب ماديًّا، ولكنه كان مُصِرًّا على أن يكون له دور فاعل أيضًا، فكان عضوًا فى المكتب السياسى للحزب حيث زاملته، ثم عملت معه بشكل مباشر بحكم عملى كمسؤول عن اللجان النوعية للحزب وبحكم اختياره كرئيس للجنة الصناعة، التى أخذ موضوعها بكل الجدية بداية من اختيار أعضائها من عيون رجال الصناعة فى مجال الصناعات الهندسية والصناعات الدوائية والغذائية والمهتمين بالطاقة والمناجم والصناعات النسجية والورق والكيماويات.
والأهم من ذلك كان حرصه الدائم على نجاح اللجنة وانعقاد جلساتها بمقر الحزب أو استقبالى فى مكتبه لكتابة التقارير أو الرد على بيان الحكومة أو مناقشة القوانين مثل قانون العمل والنقابات المستقلة، وهو السياق الذى عكس دراية تامة بالقوانين واللوائح المنظمة للأعمال، بالإضافة إلى الاهتمام بالنهوض بالقطاعات الصناعية والتجارية المختلفة، وهو الوجه السياسى الوطنى لرجل أعمال احتاج بلده إلى مساهمته فى مرحلة دقيقة من تاريخه، حتى أعلن اعتزاله السياسة تمامًا أوائل 2017.
والحقيقة أن الكثيرين حذرونى من التعامل مع دكتور رؤوف بوصفه شخصًا حادًّا، وهى الصفة التى وجدتها فيه بالفعل أنه حاد جدًّا وجاد جدًّا فى نفس الوقت وهو منضبط فى مواعيده لأقصى درجة، ويقول رأيه فى الأشخاص والأحداث بكلمات كالطلقات دون محاذير إلا رأيه الذى كوّنه عن تجربة، ولم يُشعرنى يومًا أننا نقوم بعمل ثقيل عليه أو مقحم على وقته الثمين جدًّا، بل إنى كنت أستمتع بالعمل معه، وخاصة فى الشتاء مع دخان سيجاره الرائع وهو يجول بعينيه فى فضاء المكان ليستدعى الأرقام والمعلومات والأشخاص بدقة، ومع انطلاق تفكيره على سحابات دخان سيجاره كان يستدفئ بوضع يديه على مدفأة زيتية بجواره مما كان يُشيع بجسمى الدفء بالتالى لأننى ممن لا يحبون البرد مثله.
ومن صفات دكتور رؤوف أنه لا يهمل أى اتصال وارد، وإذا لم يرد على المكالمة فى حينها فإنه يرد فى أسرع مناسبة، حتى إنك تظن أن الرجل لا مشاغل لديه، وهو ما حدث منذ أسابيع عندما اتصلت به لسبب من أسباب العمل، وظننت أنه لن يرد ربما لطول الفترة الزمنية التى لم نتواصل فيها، والتى زادت على خمس سنوات، إلا أنه فاجأنى بالرد والترحيب المعتاد منه، ولكن بصوت خافت بعض الشىء، حتى إننى ظننت أنها تداعيات كورونا، لكنه حكى لى أنه يعانى صحيًا منذ سنة، ولا يذهب إلى مكتبه، ولكنه يتابع العمل من منزله، وسألنى كيف يساعدنى فقلت له ما أريد عمله، فذكر لى أسماء مديرين فى شركاته مسؤولين عن الموضوع الذى أقصده، ووعد أن يرسل إلىَّ أرقامهم للتواصل.
لم تمضِ دقائق حتى أرسل إلىَّ الأرقام، فأرسلت له مقترحًا بأن أحادثهم فى الغد، إلا أنه بنفس روح المبادرة والسرعة فى الإنجاز عاجلنى برسالة «أنا كلمتهم، وهُمَّه منتظرين منك مكالمة دلوقت»، وقد كان.
هذا هو الرجل الذى عرفته دون أن أراه مرة، ثم عرفته فى عز مجده مرة، ثم وهو يعانى بشجاعة ويعمل بنفس الدأب والإصرار مرة ثالثة، ولذلك تأتى أهمية المذكرات فى الصفة الغالبة على الرجل فى اهتمامه بأوقات الانكسار وكيفية التغلب عليها أكثر بكثير من التغنى بالنجاح وترديد أناشيده، مما يبث فى روح مَن لم يقابلوه كيف تكون عصِيًّا على الانكسار وكيف تقوم من العثرات مُعافًى وكيف تبنى جسورًا من الثقة والاحترام حتى مع مَن لا يعرفونك.
نقلا عن المصري اليوم