القمص يوحنا نصيف
    "هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررتُ" (مت3: 17، مت17: 5) كلمة الرب هذه قيلت أولاً في معمودية السيّد، وقيلت على جبل التجلي لتعني الشيء نفسه. فمعمودية الأردن كانت في الأداء الرمزي صورة عن موت المسيح (نزوله إلى الماء كما إلى قبره) وصورة عن القيامة بخروجه من الماء. أمّا على تابور أمام مشهد النور الساطع فقد يظن المرء أنّ هذا كان استباقًا للقيامة وحدها. غير أنّ السيِّد قبل التجلّي وبعده أنبأ بموته وقيامته ولم يفكّ هذه عن ذاك. الفصح عمليّة متكاملة يتضمّن الموت والانبعاث من الموت. وسحابة المجد التي ظلّلت السيِّد والنبييْن إلياس وموسى تشير إلى المجد أي إلى قوّة المُعلِّم. فهو تمجّد على الصليب كما يُعلّم يوحنّا وتمجّد في القيامة أيضًا. "الآن تَمجَّدَ ابن الانسان وتمجّد الله فيه" (يو13: 31) تدلّ على مجد له نهائي في الصليب. وجاءت القيامة كَشَّافةً لهذا المجد. وكلّ مَن تابع عباداتنا في الأسبوع العظيم يعرف أنّنا دائما نتقلّب بين الجلجلة وقبر السيد لِنَدلّ على المجد الواحد والظفر الواحد.

    والمعنى الألمي للتجلي يبدو أيضًا من كون موسى وإلياس كَلّما المخلّص على خروجه من أورشليم أي عن موته أولاً. وجرى الحديث فيما كان النور الإلهي يلفّهما مع المُعلِّم.

    ماذا حدث؟ قبل كلّ شيء التغيير الذي حدث على وجه السيّد وعلى ثيابه لم يأتِهِ من الخارج. هذا ليس نورًا حِسّيًّا، ليس ضياء الشمس. هو نور الألوهة المستقرّة فيه. هذه أَخفَى يسوع نورها في ذاته حتى يتمكّن من الاتصال بالبشر اتصالاً طبيعيًّا، حتى يأخذ شكل العبد ويتواضع إلى الحالة التي هُم عليها. لو كان يُبهرهم بنورٍ وَضّاء باستمرار لَما أحسُّوا أنّه واحد منهم. كان إخفاءَ نورِه فيه أساسيًّا لإتمام الرسالة.

    لم يتغيّر شيءٌ إذًا في كيان السيّد. إنّه كشف النور عن نفسه من أجل التلاميذ. إنّهم عاينوا مجده بعيون وقلوب صارت تبصر بالنعمة التي مَنّ بها عليهم. هم الذين انتقلوا إلى رؤية النور غير المخلوق. هم الذين تجلّوا وانقطع النور عنهم بعد أن انتهت الرؤية وعادوا مع المعلم إلى الحياة الطبيعيّة.

    هذا النور الإلهي ينزل أحيانًا على القديسين هنا قبل انتقالهم إلى الملكوت. وعِندنا سيرة غير واحد سطع عليه نور المسيح الذي يبدو محسوسًا ولكنّه ليس بمحسوس. هؤلاء الأبرار يستبِقون مجد الملكوت بمعنى أنّ المجد هبط عليهم ولو لزمان قصير أو بصورة متقطّعة. القديسون الأرثوذكسيون نورانيون ليس فقط بمعنى أنّ قلوبَهم مُطهَّرة ولكن بمعنى الظهور الإلهي عليهم. ولا نجد في العالَم الأرثوذكسي ظاهرة قديسين عليهم جراح أو مظاهر أخرى.

    الشيء الأخير هو أنّ الربّ يسوع تجلّى فيما كان يصلِّي حسبما ورد في إنجيل لوقا. ينعكس هذا فينا فتصير طريق الدعاء الفردي أو صلاة الجماعة هي ظرف لنزول النعمة علينا. الله إذا سكن قلبك آبًا وابنًا وروحًا قدّوسًا هو الذي يأتيك بالاستنارة فتتحرّر من ظلمة خطاياك، وإذا تكثّف في ذهنك نوره يصير قلبك مثل قلب الله. يكون هذا تجلّيك.

المطران جورج خضر
مطران جبيل والبترون وما يليهما للروم الأرثوذكس
(جبل لبنان)
أغسطس 2003م
* ملحوظة: كتب المطران جورج هذه المقالة بعد أن تجاوز الثمانين عامًا من عمره بحوالي شهر، وهو الآن قد تجاوز التاسعة والتسعين عامًا، متّعه الله بالصحّة؛ وقد تقاعد عن مسؤوليّته الإداريّة كمطران للإيبارشيّة، واستُبدِل بمطران جديد منذ عام 2018م.