فاطمة ناعوت
عقودٌ طوالٌ من التعنّت غير المبرر فى بناء الكنائس وترميم المتهالك منها، أورثنا ثمارًا مُرّة، كان آخرها فاجعة كنيسة أبوسيفين بالمنيرة التى أودت بأرواح بريئة كانت تصلى فى بيت من بيوت الله.
عهودٌ سابقة طوالٌ كان فيها بناء كنيسة جديدة بمثابة عمل أسطورى من الخيال العلمى، يستوجبُ موافقات وتراخيص خرافية، طولُها كطول الكمد، وكأنها تصاريحُ لبناء مفاعل نووى شديد الخطورة!. وغالبًا يتعطل البناءُ فى اللحظة الأخيرة بسبب موظف صدّق تاجر دين يكره أن يُعبدَ الله إلا من خلاله، بينما يقول ربُّ العزة: «ولو شاءَ ربُّك لجعلَ النَّاسَ أمَّةً واحدةً ولا يزالون مختلفين» (هود- ١١٨).
ترميمُ جدار متهالك فى كنيسة، إصلاحُ ماسورة مكسورة تُصدّع الحوائط بنشع الماء، إعادةُ تثبيت منارة تُنذر بالسقوط، أو حتى تغيير جلدة صنبور تالف.. تستوجب موافقةً موثقة ومختومة من رئيس الجمهورية شخصيًّا!!!!.. فتصوروا حجم العُسر فى بناء كنيسة جديدة مرخصة! ضربُ مستحيل! وأشقاؤنا المسيحيون يريدون الصلاة والتعبّد وإقامة شعائرهم الدينية، شأنهم شأن جميع البشر! شأننا نحن المسلمين حين نشيّد المساجد والزوايا حتى نُعمّرها بالصلاة والعبادة ومناجاة الله.
بعضنا يبنى المساجد تقرّبًا لله وطمعًا فى رضوانه، وبعضنا يبنيها أسفل العمارات الشاهقة حتى يُعفَى العقارُ كاملًا من الضرائب!.. وماذا يفعل المسيحيون فى ظل هذا العنت غير المبرر؟ يلجأون إلى بناء كنائسهم داخل عمارات قديمة لا تحقق شروط السلامة للتجمعات الكثيفة أثناء إقامة القداسات وفى الأعياد الدينية ومدارس الأحد والحضانات التى تضمُّ مئات الأطفال والنشء الصغير.. فتحدث الفواجع مثل حريق كنيسة'> حريق كنيسة «أبوسيفين» التى صدّعت قلب مصر وجعًا على أبرياء معظمهم من الأطفال، حوصروا بالنيران داخل جدران الكنيسة القديمة بعدما انفجر مولّد الكهرباء العتيق، فمنهم من ألقى بنفسه من الدور الرابع ليلقى حتفه على أسفلت الشارع الضيق، ومنهم من اختنق بسحب الدخان الكثيف وأسلم روحه إلى بارئها.
ونحن الآن فى «الجمهورية الجديدة» فى عصر جديد راقٍ متحضر. عصر مَنَّ اللهُ علينا فيه برئيس سوىّ مثقف العقل نظيف القلب لا يغازل قوى الرجعية ليكسب شعبية زائفة على حساب الوطن. رئيس قوى يؤمن بأن قوة الوطن لا تتأتى إلا بالعدل بين أبناء الوطن وعدم محاباة فريق على حساب فريق. رئيس يضرب بحسم على يد المتطرف الآثم قلبه الذى يفجر الكنائس أو يعطل بناءها وترميمها لغرض خبيث فى نفسه. قال الرئيس السيسى فى أحد لقاءاته: «إنت زعلان ليه لما تشوف كنيسة وإنت مسلم؟!! عشان كده إحنا عملنا ممارسات فعلية تؤكد احترامنا لعقائد كل الناس. وبقول الكلام ده من منظور دينى، مش بس من منظور حضارى وثقافى وفكرى».. هذا هو رئيسنا المحترم الذى أعلن منذ يومه الأول فى الحكم أنه رئيس لجميع المصريين على اختلاف عقائدهم، بالفعل لا بالكلمات البراقة، فدخل الكاتدرائية فى عيد الميلاد عام ٢٠١٥، فى سابقة رئاسية حضارية لم يفعلها من قبله رئيس آخر. إنه الوعى، أهم قضايا حقوق الإنسان فى مجتمعنا. محاربة التدين الزائف الذى ينتهج الإقصاء وكراهية الآخر المختلف عقديا. وعلّ تلك الفاجعة تكون سببًا فى مراجعة صيانة جميع الكنائس القديمة وتركيب أجهزة إنذار حريق تتصل مباشرة بوحدات المطافئ، فيكون ذلك هو اليسر فى العسر: «إن مع العسر يسرا»، وأما اليسرُ المشرق فى تلك الفاجعة المروعة فظهر فى تلاحم الشعب المصرى فى المحن، وهو سمة المصريين منذ منشأ الحضارة. فهذا شيخُ الأزهر الشريف الإمام الأكبر د. أحمد الطيب يفتح مستشفيات جامعة الأزهر لاستقبال المصابين فى حريق «كنيسة أبوسيفين»، ويصدر قراره بصرف إعانات نقدية عاجلة لأسر المتوفين.
وأما معدن الشعب المصرى الأصيل، فقد تجلّى بوضوح على صفحات التواصل الاجتماعى التى ضجّت بتغريدات الحزن والرثاء لشهداء الكنيسة الذين استشهدوا وهم صائمون يناجون الله فى عيد أطهر نساء العالمين، عليها وعلى ابنها السلام.
وأما على أرض الواقع، فكانت الصورة أنصع وأجمل وأفعل. هرع الجيرانُ من كل صوب إلى الكنيسة لإخماد النيران وإنقاذ الضحايا، ومنهم من ألقى بنفسه فى لهيب النيران لإنقاذ أطفالنا من الاختناق فى الكنيسة، مثل السيد «محمد يحيى» وغيره الكثير. «مَثَل المؤمنين فى توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحمى».
رحم الله القسّ الأب عبدالمسيح بخيت الذى استشهد فى الحريق قائلًا: لن أخرج إلا مع خروج آخر طفل وآخر مُصلٍّ من الكنيسة. فلقى وجهَ ربه فى قداس عيد السيدة العذراء مريم، عليها وعلى ابنها السلام.
رحم الله أشقاءنا شهداء كنيسة أبوسيفين، وأرخى بالصبر والسلوان والعزاء على قلوب ذويهم.
نقلا عن المصرى اليوم