مفيد فوزي
-١-
نشأت فى أسرة ليس فيها سوى «محاسبين ومآمير ضرائب»!. لم يكن أحد أقاربى على صلة بعالم الإذاعة أو الصحافة، وكنت وأنا فى الثامنة أتطلع لهذا العالم، ولا أدرى السبب!.

كنت فضوليًّا بدرجة مزعجة، فكلما ظهر شخص ما لا أعرفه سألت: مَن يكون؟، وما قرابته لنا؟، وهل سيغادر أم سيبيت؟!. كان فضولى يسبب لى الضرب أحيانًا، وكان أبى ينهرنى بعنف.

كان يقول: اسكت، اخرس، حط لسانك.. فى بقك!. ولم أكن أطيع أبى مهما كانت قسوته.. وعلى الجانب الآخر كانت والدتى «تجبر بخاطرى» وتقول وهى تربت على ظهرى: اسأل!، وكأن أمى فهمت مفتاح شخصيتى. كلمة اسأل!. فى المدرسة كانت أسئلتى تضايق المدرسين، حتى إن مدرس الجغرافيا هددنى بالفصل إن لم ألزم الصمت، ولم أكن ألزم الصمت، بل واصلت السؤال!.

قال خالى، وهو موظف كبير فى وزارة المالية: اعرضوه على دكتور نفسى!. ولكن أستاذ المجتمع رفض العرض، وقال: «الفضول ده علامة نبوغ»!، ولم أفهم العبارة، ولكن أمى سعدت بها، وأدركت أن فضولى علامة صحة، وليس علامة مرض!. كانت تقول لى من خلف ظهر أبى: «عاوز تسأل فى إيه؟» ولهذا، لم أكف عن السؤال رغم انتقادات مُرّة!.

-٢-
فى المدرسة الثانوية، التحقت بجمعية الخطابة وجمعية الصحافة وكأنى وجدت نفسى فى جمعية الخطابة، وقال مشرف الجمعية: «أنت وُلدت لتجادل»، ولم أفهم يومها كنه العبارة، ولكنى فهمت أنى أسأل بشكل جيد. فى جمعية الخطابة كان هناك حوار بينى وبين زميل، وادعى أنى هزمته بأسئلتى وصفق لى الطلبة، وقال مشرف الجمعية «إن أسئلتى فريدة». لم أفهم معنى كلمة فريدة ولكنى فهمت أنها «جديدة»، وكنت سعيدًا بهذا الإطراء.

كانت أمى تراقبنى وتُظهر إعجابها بأسئلتى، وهى التى أرشدتنى إلى استعارة كتب من مكتبة البلدية، أملك أن أقول إن أمى علمتنى القراءة، خارج مقررات المدرسة. كانت تريد أن يرتفع منسوب ثقافتى، واستطعت أن أفوز بجريدة حائط أحررها كلمة كلمة، فزادت شهرتى فى المدرسة، حتى إن بعض زملائى كانوا يطلقون علىَّ «مستر كويسشن»، أى مستر سؤال!. حاورت لجريدة الحائط مدرس الرسم ووصف أسئلتى بأنها «ليست ع البال»، وأعجبنى التعبير!.

كانت المرحلة الثانوية هى فترة الإعداد لشىء داخلى، لكنى لم أستطع أن أفهمه، ربما هو موهبة السؤال فى كلية الآداب بجامعة القاهرة، تبنت «الأميرة دينا»، وكانت مدرسة بالكلية، جريدة حائط الكلية، وكانت تقول لى: اسأل كلما كان فى صدرك شىء، وقالت سناء البيسى: اسأل، لا تكف عن السؤال، وفى الصحافة، اكتشف فتحى غانم موهبة الحوار عندى وأساسها السؤال، وقال مصطفى أمين: «إذا كان مصطفى محمود تأمل، وأحمد بهاء الدين تحليل سياسى، فمفيد فوزى سؤال».

-٣-
حين كلفنى رئيس التحرير بحوار مع مدير حديقة الحيوانات بالجيزة، اللواء عبدالله النجومى باشا، جمعت المادة وأشهرت أسئلتى وأجاب الرجل وكتبت الموضوع، ولكن فتحى غانم أعاده لى ثلاث مرات!. السبب: ١- خالٍ من المعلومات. ٢- يفتقد الجاذبية فى العرض. ٣- ليس هناك قصة تشد القارئ ليتابع. تذكرت ما قاله المخرج الفرنسى لولوش إن أى حوار يشد انتباه القارئ يبدأ بحكاية.

وحين أعدت التحقيق ثلاث مرات، فطنت إلى المطلوب مهنيًّا، وكُتب اسمى فى صدر الحوار، وكانت من أسعد لحظات حياتى. لم أندهش ولم أحتج ولم أغضب، بل تواصلت مع طريقة تفكيره حتى وصلت إلى الصيغة التى أعجبته. وواصلت الحوارات فوق صفحات «صباح الخير»، وذقت طعم النجاح من عيون القراء.

-٤-
على الجانب الآخر حين كُلفت ببرنامج حديث المدينة، وهو حوارات تقيس نبض المجتمع، كنت أتابع حوارات طاهر أبوزيد وسعد لبيب على الشاشة واستفدت كثيرًا من متابعتى. لم أقلد أحدًا، بل احتفظت بشخصيتى ومذاقى. كانت سعاد الصباح تقول لى: أنت لا تستأذن فى السؤال!، وكان أنيس منصور يقول لى: حوارك عمل علنى جرىء غير فاضح.

وكان الأستاذ هيكل يرى أن أى حوار مع أى شخصية Moufidized، بمعنى أنى أبصمه بشخصيتى ومذاقى. كان صلاح حافظ يقول لى: «الحوار عندك مادة شهية»، وهذا صحيح، فمعظم حواراتى كنت أمارسها بمتعة وشهية، وكسبت لقب «أشهر المحاورين»!.

فى كتابى «اسمح لى أسألك»، جمعت أشهر الحوارات ونشرتها وتحولت إلى برنامج تليفزيونى بعنوان «اسمح لى»، كان من إنتاج المحترم أنس الفقى والخبرة أسامة الشيخ، وأُذيع مرة واحدة بعد منتصف الليل!. فى حواراتى أهتم بالشأن الشخصى وأهتم برؤية الضيف فى الحياة والموت، وأعتبر الحوار مشروعًا، حتى أفرغ منه. للأستاذ هيكل رأى فى حواراتى «ألمع نجوم الحوار». كانت الكاتبة اللبنانية السياسية ليلى عسيران تقول من اللحظة الأولى يقول لك مفيد فوزى: «أنت فى صحبتى»، وقد أعجبتنى العبارة وصرت أرددها.

-٥-
يقول لى نزار قبانى: (حواراتك تشبهك، اللماحية والذكاء وروح العفرتة التى اكتشفها أحمد بهاء الدين فيك!. ويومها كتب افتتاحية تحمل نفس العنوان يقدمك للقارئ العربى)، ولا أظن أنى تخليت عن «روح العفرتة»، التى صارت عنوانى ورمز حروفى المطبوعة وسكة السلامة للوصول إلى قلب القارئ، الذى احترمته فبادلنى الاحترام.
نقلا عن المصرى اليوم