لقد أثبتت الوحدة الوطنية المصرية أنها مثل الكرة كلما ضربوها لأسفل قفزت إلى أعلى. وكل المحن التى تمر بها مصر أحيانًا، مثل حادثة إمبابة'> كنيسة إمبابة، لم تكسر هذه الوحدة الصلبة، بل زادتها وهجًا وشبابًا وجمالًا، ورسختها فى الحقول والمصانع والجامعات وفى القصائد والأحلام والتمتمات الخافتة فى الصلاة.
 
ولا أتخيل طعمًا للحياة من دون أصدقائى إسحق حنا، وأبانوب نعيم، وحسام، والمهندس ماجد، وأمير زكى، ونورا، ومن قبلهم يوسف الشارونى، ولا أتخيل أيامى من دون مكالماتهم الهاتفية ومزاحهم ومواعيدهم غير الدقيقة. ألم يقل البابا تواضروس الثانى منذ عام، فى حواره مع قناة «إكسترا نيوز»: «لو حرقوا الكنايس سوف نصلى مع إخوتنا المسلمين فى المساجد ولو حرقوا المساجد سوف نصلى معهم فى الشارع»؟ ألم يتبرع محمد صلاح بثلاثة ملايين جنيه لترميم الكنيسة؟ ألم يهب محمد يحيى، من سكان إمبابة، إلى إنقاذ الكثيرين من أشقائه المسيحيين غير مبال بالنيران والدخان حتى أصيب باختناق ونقل إلى المستشفى؟
 
ألم يختلط دم غريب عبدالتواب فى معارك أكتوبر ١٩٧٣ بدماء شنودة راغب، واستشهد الاثنان متعانقين؟. تخرج الوحدة الوطنية كل مرة من كل محنة أقوى، وأجمل، وأكثر شبابًا وفتوة وقدرة على التجدد والحياة.
 
ألم يكتب طه حسين فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» عام ١٩٣٨: «لعل الاختلاف بين المسلمين والأقباط فى الدين أن يكون أشبه بهذا الاختلاف الذى يكون بين الأنغام الموسيقية، فهو لا يفسد وحدة اللحن وإنما يقويها ويزكيها ويمنحها بهجة وجمالًا»؟. 
 
كان مؤلمًا إلى أقصى درجة أن تتطلع إلى صور الأطفال الأبرياء الذين ذهبوا ضحية الحريق، من بينهم ثلاثة صغار لأم واحدة، وفى مصر تقول الأم عن ابنها أو ابنتها: «ضناى»، أى تعبى ومشقتى وجهدى كله، إلا أن الحريق المؤسف التهم الأخشاب وحدها وعلق سواده بالجدران، ولم تقترب ألسنته قط من صلب العلاقة بين المصريين، ولم يعلق سواده بالنفوس. ورأينا كيف كانت الأمهات المحجبات يقفن بجوار الأمهات القبطيات يبكين معًا بالدمع الغزير أطفال الجنة وملائكتها.
 
لم تفلح إذن جهود الجماعات المتطرفة الفكرية فى النيل من الوحدة الوطنية، ولا فلحت فى طمس هذه الجوهرة حتى ليجوز القول إن مصر هبة هذه الوحدة الإنسانية الأخلاقية التى لا تتمسك بتفاصيل الطقوس الدينية قدر تشبثها بجوهر الدين، فتدعو وتنادى بالصلاة معًا، فى المساجد أو الكنائس، كما كان الأب جرجيوس يلقى خطبه فى المساجد خلال ثورة ١٩، وكما كان الشيوخ يلقون خطبهم فى الكنائس.
 
لقد خلقت آلام إمبابة'> كنيسة إمبابة فرحة أخرى، وإن كانت فرحة دامعة، فرحة أننا معًا، لا شىء يفرقنا، وأن كل محنة تضاعف من شباب مصر، وآمالها، وقوتها، وتغذى قصائدها بكل المعانى الجميلة التى نستند إليها ونحن نتقدم بأحلامنا إلى الأمام.
نقلا عن الدستور