حلمي النمنم
فى فبراير الماضى، انشغلت كبريات الصحف فى القاهرة، فضلًا عن عدد آخر من الصحف فى عالمنا العربى، وكذلك العديد من المواقع الإخبارية، بما أطلق عليه محاولة الموساد الإسرائيلى «تجنيد» الأستاذ محمد حسنين هيكل. الكلمة التى استُعملت فى بعض التغطيات «تجنيد» كانت فظة وغليظة لا تليق باسم وتاريخ صحفى كبير.
 
المواد المنشورة اعتمدت على مقال للصحفى الإسرائيلى «إيد أورين»، نُشر فى «هاآرتس». المقال بُنى على مجموعة من الوثائق الإسرائيلية أُزيحت عنها السرية واطّلع هو عليها. المحاولة لم تتم أصلًا، لكن جرى التفكير فيها، وتم وضع سيناريو لتنفيذها، ثم صُرف النظر عنها فى اللحظة الأخيرة لصعوبتها. جرى التفكير والتخطيط لاختراق هيكل لأنه كان «الصديق المقرب» للرئيس عبدالناصر، ولم يكن الهدف تحويل هيكل إلى «جاسوس»، بل أن يلتقى فى نيويورك بأحد أعضاء الوفد الإسرائيلى فى مجلس الأمن، فى حضور صحفى أمريكى صديق لهيكل، فيبدو اللقاء طبيعيًّا وسط الزحام، ثم ينتهى الأمر بأن يلتقى هيكل بمسؤول إسرائيلى كبير، هو موشى ديان. كان «ديان» متخصصًا فى التنكر ولقاء بعض الشخصيات العربية فى مدن مختلفة حول العالم، وقد يسهم اللقاء المرتقب فى التقارب السياسى مع مصر وعبدالناصر، وإن أمكن إقناع هيكل بزيارة إسرائيل، على الأقل يخفف من حدة كتاباته عن إسرائيل، كان ذلك بين عامى ١٩٥٩- ١٩٦٠. درس الموساد الخطة وقدّر صعوبتها لأن هيكل «لا يغيره المال، ولا شىء فى حياته يوحى بإمكانية ابتزازه للتعاون مع إسرائيل»، وقبل ذلك هو «وطنى شرس». موقف هيكل لم يتغير من إسرائيل حتى رحيله عن عالمنا، قبل ست سنوات.
 
ترى هل كانت تلك هى الخطة أو المحاولة الوحيدة التى قامت بها إسرائيل؟. لقد توثقت صلة هيكل بالرئيس أكثر بعد ذلك. فى منتصف الستينيات كان معظم أصدقاء عبدالناصر من الصحفيين قد تراجعوا. حلمى سلام احترق بانحيازه إلى المشير عامر. مصطفى أمين أُدين بالتخابر صيف سنة ٦٥، وما نُشر من اعترافات منسوبة إليه ليس فيها أسرار خطيرة، إنها تكشف أننا أمام إنسان كاره من أعماقه الرئيس ونظامه، والمشكلة أنه عبر عن مشاعره وآرائه لرجل المخابرات بالسفارة الأمريكية، فيما بعد، وحين أصدر الرئيس السادات عفوًا عن الأستاذ مصطفى، ذكر الأخير أن الاعترافات التى أدلى بها أُكره عليها وانتُزعت منه تحت التعذيب. الصحفى والشاعر كامل الشناوى غرق فى الشعر والفن والسهر، ثم رحل عن عالمنا سنة ١٩٦٥.
 
إحسان عبدالقدوس ظل صديقًا لعبدالناصر، لكنه احتفظ بمسافة من التباعد تُمكِّنه من أن يعبر ويقول كل ما يريده قصصيًّا وروائيًّا، وقد أراحت تلك الصيغة الرئيس والكاتب معًا. ظل هيكل صامدًا، محتفظًا بعلاقته مع الرئيس، لا ينشغل بغير الكتابة السياسية، ويقوم بما يكلفه الرئيس من أدوار، ثم توثقت أكثر وأكثر مع هزيمة ٦٧ وما تلاها، أى حرب الاستنزاف، هل توقفت المحاولات الإسرائيلية؟. هل كانت الأسئلة التى تُطرح على هيكل فى زياراته المختلفة إلى الخارج حول إمكانية السلام بين مصر وإسرائيل وإقامة علاقات بين الدولتين بعيدة عن عقل أو تفكير إسرائيلى ما؟.
 
شخصيًّا أشك، لابد أن هناك محاولات سابقة ولاحقة، مَن يدرى ماذا تحويه الوثائق التى لا تزال قيد السرية. والمعروف أن أجهزة المخابرات تواصل عمليات الاختراق والوصول إلى المعلومات فى أوقات الحرب وفى ظل السلام أيضًا، بالنسبة لإسرائيل نتذكر عزام عزام، والجاسوس النووى محمد سيد صابر، وإيلان جرابيل، وغيرهم.
 
المدهش أن كثيرين من الزملاء عبروا عن دهشتهم مما ورد فى مقال الصحفى الإسرائيلى، وكأن ذلك مستغرب من إسرائيل. فى سنة ١٩٥٣، ضُبط مصور صحفى بإحدى الصحف الكبرى، كانت المخابرات الإسرائيلية قد وصلت إليه وأمكنهم السيطرة عليه، حتى أُلقى القبض عليه.
 
البعض الآخر فرك يديه ثقة واطمئنانًا إلى وطنية هيكل وكأن وطنيته كانت موضع شك، لو أن فيها ما يخدش لما سكت عنه خصومه، وهم كثر، بعضهم لا يفتقد الشراسة، وبعضهم يتمتع بوضاعة تسمح له بالتشهير لو أن هناك ما يُمكِّنه من ذلك. منذ منتصف السبعينيات كان هيكل أشبه بشخص ضرب النار فى مراكز التدريب، ولو عثر هؤلاء على ثغرة أو شبهة من هذا النوع ما أفلتوها.
 
هذا عن المخابرات الإسرائيلية، لكن ماذا عن مخابرات دول أخرى، تحديدًا منها البريطانية والفرنسية والأمريكية؟، هذه أجهزة دول تماسّت مع مصر فى أوقات ومواقف حرجة، لن أتحدث عن المخابرات السوفيتية، التى كانت تتابع هيكل بدقة وكانوا ينظرون إليه بريبة واتهام، هل يمكن أن نضيف بعض الأجهزة أو الجهات فى المنطقة المحيطة بنا؟. فى الوثائق الأمريكية لسنة ١٩٥٣، نجد تقريرًا وافيًا عن كبار الصحفيين المصريين (عشية ثورة يوليو)، يضم التقرير سيرة وخصائص كل منهم ودرجة اقترابه من رموز العهد الجديد، هذا يعنى أنهم تحت المجهر، وربما محاولة الاقتراب ثم السيطرة إن أمكن.
 
هذا كله جانب واحد من جوانب الكلفة الإنسانية وفاتورة اقتراب الصحفى من قيادة الدولة، وبالتأكيد حدثت محاولات مع آخرين من الذين اقتربوا بدرجة ما من رأس الدولة، هيكل لم تكن لديه نقاط ضعف تتيح لجهاز مخابرات ابتزازه، نقاط الضعف والابتزاز تتركز فى حب المال والهوس بالنساء «الجنس» أو الموقف النفسى أى كراهية النظام واستشعار الغبن والظلم، وقد كان هناك مَن لديه جوانب الضعف تلك، والتى قد تؤدى به إلى الخضوع تحت سطوة التهديد والابتزاز. إذا وُجد ذلك مع ضعف فى الشعور الوطنى يمكن لجهاز مخابرات ما أن ينجح مع الهدف الذى يستهدفه. تاريخيًّا كل صحفى اقترب من الحاكم فى كثير من الدول، خاصة إذا كانت فى موقع وأهمية مصر، هناك قوى أجنبية عديدة تسعى إليه، المويلحى صار مقربًا من السلطان العثمانى بعد أن اقترب من الخديو إسماعيل، نفس الأمر جرى مع رئيس تحرير المؤيد، على يوسف، حين أصبح المقرب من الخديو عباس حلمى، مع الملك فاروق كل مَن اقترب منه وجد السفارة البريطانية ثم الأمريكية تهرول نحوه، العكس حدث أيضًا، أى أن الصلات الأجنبية يمكن أن تجعل الصحفى مقربًا من كبار الرؤوس فى الداخل، الملك فاروق قرب إليه كريم ثابت لأنه كان وثيق الصلة بالسفارة البريطانية «قصر الدوبارة».
 
محاولة الموساد مع هيكل ظلت مجرد خطة على الورق، وبالتأكيد لم يكن الوحيد الذى وضعوه تحت المجهر وحاولوا الاقتراب منه، والمؤكد أيضًا أن هناك أجهزة أخرى حاولت مع آخرين، هنا قد تنجح المحاولة إلى الحد الأقصى أو إلى حدود معينة، وقد يُكتشف الأمر، فتكون الفضيحة والمحاكمة، فى بعض الحالات لا يتم الإعلان عن اكتشاف الاختراق والتجنيد، ولكن تتم تصفية مَن تورط بهدوء، ويبدو الأمر وكأنه حادث عادى وربما يكون الحادث مروعًا وغير عادى، فضلًا عن أن يحيطه الغموض، هنا قد يكون المقصود توجيه رسالة تحذير إلى الآخرين أو الرد العنيف على مَن جنّدوه، باستمرار يُقتل صحفيون حول العالم أو يختفون، وحين يحيط الغموض بالجريمة، أو يتعثر التحقيق ويتوقف البحث، فهذا يحتمل وجود خيط من الجاسوسية أو الاختراق المخابراتى فى الحادث.
 
وقد يكون قولًا مكررًا أن الصحافة مهنة خطرة فى كل مكان بالعالم، الفارق فى الخطورة ليس كبيرًا بين دولة نامية وأخرى متقدمة، تزداد الخطورة بالنسبة لبعض التخصصات، مثل الذى يتابع الجماعات الإرهابية أو تجار المخدرات ومافيا التهريب، لو تتبعنا مسيرة كثير من الصحفيين فسوف نجد العديد من المخاطر مرت بهم وتعرضوا لها، لكن الخطورة تصبح مؤكدة لمَن يقترب من رؤوس الدولة، ناهيك عن أن يكون الرأس الأول، الخطورة ليست فى محاولات التجنيد والاختراق فقط، مثلًا أعلن الرئيس السادات مرة أثناء خلافه مع العقيد القذافى، إثر توقيع اتفاقية فض الاشتباك الثانى (مع إسرائيل) أن العقيد كلف مجموعة باغتيال إحسان
 
عبدالقدوس لأنه كان صديقًا مقربًا من السادات. يوسف السباعى الأديب والصحفى تم اغتياله فى قبرص بتخطيط مخابرات صدام حسين لأنه كان صديقًا مقربًا من الرئيس السادات، مرة أخرى لا يتوقف الأمر علينا فى القاهرة، فى بيروت جرَت محاولات تصفية عدد من الصحفيين لأسباب مشابهة. محاولة الاختراق مخابراتيًّا أو التصفية الجسدية محاولات خشنة للسيطرة وللإسكات، لكن هناك محاولات أخرى أقل خشونة أو ناعمة لجأ إليها فيما بعد الراحل معمر القذافى والراحل صدام حسين وغيرهما. يتذكر جيلنا جيدًا سيارات المرسيدس التى قدمها صدام حسين إلى الصحفيين المقربين من ضيفه الرئيس حسنى مبارك أثناء زيارته بغداد، مما عرّضهم للكثير من التندر والانتقاد وبعض الأحقاد، لكن كان هناك مَن اعتبرهم محظوظين، وقد حاولوا إدخال السيارات إلى مصر دون جمارك، لكن رئيس الوزراء الراحل، د. عاطف صدقى، ومعه وزير المالية، محمد الرزاز، أصرّا على تحصيل الجمارك ولم يخضعا للضغوط، وأرجع البعض حملات الهجوم الشرسة التى تعرض لها «الرزاز» وكذلك عاطف صدقى، فيما بعد، من هؤلاء إلى ذلك الموقف من جمرك المرسيدس.
 
الحديث ممتد.
نقلا عن المصرى اليوم