فاطمة ناعوت
قبل أن يحملَ أغسطسُ مِخلاتَه ويتوكأ على عصاه ويفتحَ بابَ الزمان ليمضى إلى حيثُ تمضى الشهورُ ولا تعود، دعونى أتذكّر معكم إحدى النوابغ المصرية الفريدة التى رحلت عن عالمنا فى أغسطس على يد الغدر الصهيونى. جميلةُ الوجه جميلةُ العقل، العالمة «سميرة موسى» ابنة محافظة الغربية، التى خطفها الموتُ غدرًا فى أوج إشراقها وشبابها ونصوعها العلمى؛ لأن عقلَها الفذّ كان خطرًا على تجارة السلاح العالمية التى تُدرُّ بلايين الدولارات على تُجّارها. قرر سدنة تجارة السلاح العالمى إخماد صوت عالمة الفيزياء والطاقة النووية المصرية حين أوشكت أبحاثُها وتجاربُها المعملية على ابتكار قنبلة ذرية من مخلفات المعادن الرخيصة، ما سوف يسمحُ للدول الفقيرة بإنتاجها، فيختفى بذلك تفوق الدول القوية على الدول المستضعفة. وهذا عينُ ما ترفضه قوى الاستقواء والاستعمار والتسيُّد. فتقرّر تصفيةُ ذلك العقل المصرى النيّر قبل تحقيق الحلم. وتمت الجريمةُ فى أمريكا عام ١٩٥٢، وهى لم تُكمل عامها الخامس والثلاثين.
تفوّقتْ النابغة «سميرة موسى» طوالَ سنى دارستها: كُتاب القرية، مدارس القاهرة، ثم الجامعة. وكان لتفوّقها صدى جميل عند الحكومة المصرية آنذاك، فقُدّمت منحةٌ مالية سنوية محترمة للمدرسة التى ترعى هذه النبتة العبقرية من أجل دعمها علميًّا. وأنشأت ناظرةُ مدرسة «بنات الأشراف» الثانوية معملَ فيزياء خصيصًا من أجل التلميذة النابغة، التى حصلت عام ١٩٣٥ على المركز الأول على مستوى القُطر المصرى فى الشهادة التوجيهية. ورفضت دخول كلية الهندسة، الأعلى فى سُلَّم التنسيق الجامعى آنذاك، والتحقتْ بكلية العلوم لشغفها بالفيزياء. وتخرجت كالعادة أولى دفعتها. ولم تسمح اللوائحُ بجامعة «فؤاد الأول» بتعيين البنات فى سلك التدريس آنذاك! فوقف العالمُ المصرى العالمى «مصطفى مشرّفة»، فى وجه سَدنة المجتمع الذكورى داخل أسوار الجامعة من الأساتذة الإنجليز، وهدّد باستقالته من عِمادة كلية العلوم إن رُفض تعيين الخريجة النجيبة «مُعيدةً» بوصفها الأولى على دفعتها فى بكالوريوس العلوم. وأصبحت «سميرة موسى» أول معيدة فى كلية العلوم بجامعة القاهرة فى ثلاثينيات القرن الماضى. وأنجزت رسالة الماجستير حول «التواصل الحرارى للغازات»، ثم سافرت إلى بريطانيا لدراسة الإشعاع النووى، وخلال عام ونصف أنجزت الدكتوراة فى الأشعة السينية (X-Rays) وأثرها على خواص المواد، ثم واصلت البحث حتى توصّلت إلى معادلة فيزيائية خطيرة: «تحويل فُتات المعادن الرخيصة إلى قنبلة ذرية»؛ لتكون فى متناول جميع الدول؛ حتى الفقير منها. ورفضت الدوائرُ العلمية تدوين المعادلة التى سيكون فيها خرابٌ على صناعة السلاح فى العالم وانتهاء احتكار دول بعينها للقنابل النووية.
كان حُلم الصبيّة الوطنية أن تدخل مصرُ حقلَ التسلّح النووى ليكون لها مكانٌ على خريطة التقدم العلمى التى فيها الكلمةُ العليا للأقوى سلاحًا وعِلمًا وصناعةً.
كانت تدرك أن امتلاك السلاح النووى هو أرضية تحقيق السلام من منطلق القوة، لا الضعف، فى عالم متوحّش أشعل حربين عالميتين هائلتين دمرتا شطرًا كبيرًا من العالم. خافت على مصر من مصير اليابان فى هيروشيما وناجازاكى عام ١٩٤٥، المدينتين اللتين دكّتهما القنبلة الذرية الأمريكية دكًّا. وبعد قيام دولة إسرائيل وإصرارها على الانفراد بالتسلّح النووى فى المنطقة العربية، خافت الجميلةُ على وطنها؛ فأرادت أن يكون لمصر ظهيرٌ نووى تردُّ به الأذى عن نفسها وعن المنطقة العربية. بعد إعلان دولة إسرائيل المحتلة على أرض فلسطين عام ١٩٤٨، أسّست «سميرة موسى» «هيئة الطاقة الذرية»، ونظمت وفودًا مصرية للسفر فى بعثات علمية لدراسة علوم الذرّة، وواصلت المناداة بالتسلح النووى للوقوف على أرض الندّيّة أمام الكيان الصهيونى الاستعمارى الآخذ فى الاستقواء بقوتى: السلاح النووى والدعم الأمريكى. ونظّمت فى كلية العلوم مؤتمرًا عالميًّا شارك فيه عددٌ من علماء العالم، أطلقت عليه: «مؤتمر الذرّة من أجل السلام»؛ لتنشر فكرتها أمام العالم: «تطويع الذَّرّة لعلاج الإنسان من السرطان وليس لقتله بالقنبلة الذرية».
وكان لابد للعدو من وضع نهاية لتلك الحياة الثريّة الحافلة بالعلم والوطنية والامتياز العقلى. بعد استجابة د. سميرة موسى لدعوة من أمريكا لإجراء أبحاثها فى معامل جامعة سان لويس بولاية ميسورى الأمريكية، حاولوا استقطابها للبقاء هناك للتدريس.. ولكنها رفضت وأصرت على العودة لمصر، الوطن العزيز. وقبل عودتها لمصر بيومين، زارت معملا نوويّا فى ضواحى كاليفورنيا، وصرّحت للصحف بتصريح خطير قالت فيه: «لو كان بمصر معملٌ مثل هذا؛ لأنجزتُ الكثيرَ لبلادى. وحين أعود سأنشئ مثله لتطوير تجارب الطاقة النووية لخدمة قضية السلام من منطلق القوة». فور خروجها من المعمل، دهم سيارتَها لورى ضخم فسقطت مهشمةً فى وادٍ سحيق.
تحية احترام لروح الوطنية الخالدة: «سميرة موسى».
نقلا عن المصرى اليوم