بقلم: أسامة عبد الفتاح
كنا نتأهب لافتتاح مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في نوفمبر 2018 بدار الأوبرا المصرية، وكان الموسيقار راجح داود موجودا لتسليم جائزة تكريم المهرجان للموسيقار هشام نزيه. كان بشوشا مبتسما، كأنه هو الذي حصل على الجائزة. تكلمنا وتطرقنا إلى مؤلفينا الموسيقيين الموهوبين، وحكيت له كيف وجدت الموسيقار ياسر عبد الرحمن صامتا، لا يتحدث إطلاقا تقريبا، خلال حضورنا إحدى دورات مهرجان أفلام العالم بمونتريال، فكان تعليق راجح بسيطا وسريعا وضاحكا: "كلنا كده.. مش بنعرف نتكلم"!
لكن لا يجب أن يخدعك صمت راجح داود واستكانته. فخلف هذا الهدوء تُحاك "مؤامرات الموسيقى" وتُنسج خيوطها بإحكام. منذ أن بدأ تأليف الموسيقى التصويرية للأفلام في منتصف الثمانينات بالفيلم الجميل "الصعاليك"، اختار الطريق الأصعب، وهو أن يعبّر عن عمق الدراما وما بين سطورها، وألا ينشغل أبدا بما يبدو على سطحها من أماكن وأحداث ومظاهر.
أيقن، منذ بدايته مع المخرج داود عبد السيد في هذا الفيلم، واشتراكه في جميع أفلام عبد السيد بعد ذلك، من "الكيت كات" (1991) إلى "قدرات غير عادية" (2015)، أن الأفلام الجميلة لها أكثر من مستوى للتلقي، وقرر أن ينفذ إلى المستوى الأعمق مباشرة، رافضا – من العمل الأول – الحلول السهلة والقوالب التقليدية، مهما كانت الانتقادات وردود الفعل السلبية.
هاجموا موسيقى فيلمه الثاني مع عبد السيد، "الكيت كات"، وقالوا إنها – بطبيعتها وأيضا بآلاتها – غريبة على أجواء العمل، لكنها صارت بمرور الوقت أيقونية نموذجية، وجماهيرية أيضا، وانتصرت وجهة نظره القائمة على الاهتمام بالجوهر، والتي شرحها قائلا: "لو هناك مشاهد بها معاني وعمق إنساني أستخدم الآلات التي تتميز بالطابع الأوركسترالي حتى إذا كنت في قلب الحارة، لهذا فإن نوع الآلة وصوتها ليس له علاقة بالمضمون، المضمون هو الذي يختار الآلة الخاصة به سواء كانت شرقية أو كلاسيكية غربية.. قد تجد في مشهد صوت بيانو في حارة رغم أن الحارة في المعتاد لا يليق بها صوت البيانو، لكن قد يتواجد البيانو في مشهد الحارة حسب نوع الموسيقى المكتوبة وكيف تخدم المعاني وقصة العمل نفسه.. الموسيقى التصويرية لا تعبر عن الأماكن ولكن تعبر عن روح العمل".
وكان استخدم في "الكيت كات" (1991) آلة الأُرغُن، التي تُستخدم عادة في القاعات الكبرى والكنائس، رغم أن الأحداث كانت تدور في منطقة شعبية، مما أثار الجدل والدهشة.. وأذكر أنني – شأن معظم المتلقين – لم أكن أعرف الآلة، واحتجت إلى معلومة بشأنها عندما كنت مديرا لتحرير مجلة "الفن السابع" السينمائية المتخصصة في النصف الثاني من التسعينات، ولم أكن قد تعرفت إلى راجح، في حين كنت قد تشرفت بمعرفة الموسيقار الراحل كمال بكير وإجراء الحوار الصحفي الوحيد الذي أجراه طوال حياته، فاتصلت به وعرفت منه أن الآلة المستخدمة في موسيقى الفيلم هي الأُرغُن الكنسي، وأذكر أنه أبدى إعجابه بهذا الاختيار، مع تسليمه بأنه غير معتاد.
يؤمن راجح بأن هناك، دائما، شيئا أعمق من الحوار والتمثيل على الموسيقى أن تظهره لتكتمل الصورة والحكاية، وعن "الكيت كات" قال: "المخرج جعل الكفيف يقود موتوسيكل، هل هناك فى الواقع أمر كهذا؟ بطل يتحدى عجزه وينتصر عليه، فلماذا لا أتحدى الجميع ومن ينتظرون سماع الأكورديون والناي في الحارة الشعبية، وأستخدم الأرغن فى الموسيقى؟".. في هذا المشهد، يقهقه الناس بالضحك وهم يشاهدون الشيخ حسني طائرا بالموتوسيكل، وعندما تدخل الموسيقى تحدث الصدمة. يصل المعنى ويتوقف الضحك.
هنا بالضبط تكمن فلسفة راجح داود في الموسيقى التصويرية. انشغلوا أنتم باللقطة والإيفيه وسأنشغل أنا بالعمق والجوهر.
ومن هذه النقطة بالضبط انطلق ليصبح صانع أحلام من الطراز الأول. أصبح هناك عقد غير مكتوب بينه وبين داود عبد السيد أولا، ثم بينهما وبين المتلقين ثانيا، مفاده أن هناك دائما ما بعد / وراء الصورة.. هناك الميتافيزيقي، السحري، الفلسفي، أو سمه ما شئت، الذي ينقلك إلى عوالم أخرى قد لا تكون ملتصقة بالأرض أو حتى بالقصة التي تتابعها، لكنه يأخذ بيدك لتلم بكل أعماقها وبكل مستويات تلقيها، ويحلق بك في سماء ترى منها أفضل، وتغسل فيها ما علق بروحك من شوائب.
وقد نقل هذا السحر معه في أفلامه مع مخرجين آخرين، ليستعصي تصنيفها على هواة التصنيف، ولتصبح أقرب إلى نوعية الواقعية السحرية في الأدب. صنع أحلام "الغرقانة" (1993) مع محمد خان، و"عفاريت الأسفلت" (1996) مع أسامة فوزي، و"المرأة والساطور" (1996) مع سعيد مرزوق، و"القبطان" (1997) مع سيد سعيد، و"خريف آدم" (2002) مع محمد كامل القليوبي، و"عصافير النيل" (2010) مع مجدي أحمد علي، و"باب الوداع" (2014) مع كريم حنفي، وغيرها الكثير.
ربما في الأحلام فقط يمكن للعود أن يجاور الأرغن والفلوت كما حدث في "الكيت كات"، ويستطيع الناي أن يصاحب الكلارينت والماريمبا كما شاهدنا في "رسائل البحر"، وتمتزج آهات الرجال مع همهمات النساء ونغمات البان فلوت والأوبوا كما تابعنا في "أرض الخوف"، ويتعايش القانون مع الفلوت كما جرى في "عصافير النيل".
في الأحلام فقط يتخلى راجح داود عن صمته ويكشف عن مؤامرته كاملة.
نقلا عن القاهرة