عاطف بشاي
نحن شعب ميلودرامى النزعة والهوى والذائقة والتوجه.. والسينما المصرية وُلدت وترعرعت وأينعت وازدهرت فى أحضان الميلودراما.. وذلك منذ نشأتها ابتداء من فيلم «ليلى»، (أول فيلم مصرى طويل بطولة وإنتاج عزيزة أمير- 1927، والذى لُقبت بموجبه بمؤسسة فن السينما فى مصر.. وفيلم «زينب» بطولة بهيجة حافظ وإخراج «محمد كريم»، واعتبره النقاد وقتها أهم تجربة فى السينما المصرية فى مرحلتها الصامتة). والميلودراما هى الابن الضال والمتطرف لـ«التراجيديا»، حيث تحفل بالأحداث الفاجعة والصراعات الدامية، والمواقف المأساوية الزاعقة ونوائب الدهر المروعة.. وتصاريف القدَر العاصفة.. وأحكام الزمان الغاشمة، وتعتمد على المبالغات الصارخة والتناقضات البالغة فى سلوك الشخصيات، والتى تُخضع مصيرهم المحتوم لنهايات بشعة.. وتحتشد بالمصادفات الصاعقة، التى تفتقر إلى المنطق، وتخاصم الحقائق الثابتة والوقائع الدامغة، وتتزين بقصص الحب والعشق المتأججة، وتلجأ إلى الإفراط فى استخدام عاطفتى الخوف والشفقة على مصير البطل المحبوب أو البطلة الفاتنة إذا ما تعرضا لأزمة طاحنة.. وذلك كحيلة درامية لابتزاز مشاعر المتلقين واستدرار دموعهم الساخنة وأحزانهم الطاغية على حال نجومهم المفضلين.. ومن هنا فإن الأفلام الميلودرامية تحظى بالإعجاب البالغ لجماهير النظارة الغفيرة، وتحقق نجاحًا تجاريًّا كاسحًا وإيرادات ضخمة. وهكذا، فإن يوسف وهبى يظل أبقى فى ذاكرة المتلقى من «نجيب الريحانى».. وحسن الإمام يظل أشد رسوخًا فى وجدان المتفرج مقارنة بـ«فطين عبدالوهاب».. و«عزالدين ذوالفقار» (1919- 1963)، المخرج، يطلق عليه تارة «شاعر السينما» وتارة أخرى «فارس الرومانسية»، والحقيقة أنها رومانسية زائفة هوجاء مفتعلة، ومبرراتها متهافتة، لا تخضع شخصيتها لحتمية اجتماعية أو طبقية أو دوافع نفسية ضاغطة أو أسباب منطقية مُلِحّة أو تآلف وجدانى عميق الجذور.. والأدق أن نصفه بأنه مخرج ميلودرامى لمعظم أفلامه، مثل (إنى راحلة- بين الأطلال- الشموع السوداء- نهر الحب- أنا الماضى- قطار الليل- موعد مع الحياة- امرأة فى الطريق.. إلخ).
وكان «عزالدين» يلجأ إلى التأثير على عواطف المتفرج عن طريق خليط من عواصف الحب المشبوب وما يصاحبه من مظاهر تلك الرومانسية الشكلية والتراجيديا العنيفة والميلودراما الصاخبة.. وكمثال فى فيلم «إنى راحلة» البطلة «مديحة يسرى» تحب ابن خالتها الضابط «عماد حمدى»، لكن والدها يرفض تزويجها منه، ويُزوجها رغمًا عنها بابن رئيس وزراء حتى يتمكن من الاستفادة من نفوذ والده.. وبضياع أمل حبيبها فى الزواج منها يتزوج بأخرى.. لكن سلسلة النكبات والفواجع تلاحقه، فسرعان ما تُتوفى زوجته ومعها طفلها الرضيع.. وتشمل المأساة حبيبته، فتكتشف خيانة زوجها لها بالمصادفة، فتعاود الوصال مع حبيبها، الذى يصطحبها إلى شاليه على البحر، استعار مفتاحه من صديق له يملكه.. وفى جو من الرومانسية الشاعرى الخلاب وعلى ضوء الشموع الخافتة يمارسان الجنس.. لتتواصل المصادفات الكارثية، فيصاب المسكين بمغص كلوى يموت على أثره بين أحضان معشوقته، التى تنهار وتقرر الانتحار.. وتسكب المأفونة الكيروسين فى الشاليه، فتشتعل النيران فى الشاليه ويحترق الجميع العشيق والعشيقة والشاليه.. وينال الصديق عقاب السماء جزاء إعطائه مفتاح الشاليه لصديقه العربيد المارق وتشجيعه على ممارسة الرذيلة المحرمة.
أما فيلم نهر الحب، المأخوذ عن رواية «أنا كارنينا» لـ«تولستوى»، فقد لجأ عزالدين ذوالفقار برؤيته الميلودرامية اللوذعية إلى محاولة تبرئة البطلة «فاتن حمامة» من جريمة الخيانة الزوجية والانتصار لفضيلة الحب الأفلاطونى المفعم بالتوهج الحميمى بين ضابط وسيم جذاب براق المظهر وأنثى تعانى مرارة الحرمان من الحب المشتعل والعواطف الجيّاشة والكلمات الرقيقة واللمسات الحانية والقبلات الحارة والأحضان الدافئة مع زوج جاف المشاعر بارد العواطف، يحرمها من نزق سلوك المراهقات، ويسخر من افتقادها إلى الثقافة والاهتمامات الجادة، التى ترفعها إلى مستوى مكانته الأدبية والفكرية الرفيعة، ويلومها على هديتها إلى طفلها، والتى تمثل قطارًا متحركًا، حيث كان الأَوْلَى بها أن تهديه لعبة تُنمى مهاراته ومعارفه.
ينحاز «عزالدين» الى الرسم الخاطئ والمتناقض فى السيناريو لشخصية الزوج «زكى رستم».. ويدفع الممثل إلى طريقة أداء تصوره فظًّا بشعًا لا ضمير لديه لإصراره على حرمان الخائنة من رؤية ابنها إزاء اتهامه لها بالزنى، ويساعدها فى حبها المُحرَّم أخوها، ويباركه، ويعمل مرسالًا للغرام بينها وبين حبيبها عمر الشريف، بدلًا من أن يعترف بفضل هذا الزوج، الذى أنقذه من السجن، بعد اختلاسه مبلغًا من العهدة المُوكَلة إليه.. أما شخصية العاشق فقد جاءت مختلفة عنها فى رواية «تولستوى»، التى قدمته كزير نساء يُغرِّر بإحدى الزوجات التعيسات، ثم ما يلبث أن يهجرها.. وسبب الاختلاف واضح فى أنه لا يرضى المتفرج المصرى، لذلك كان من المضحك أن يظهر فى الفيلم باعتباره الضابط الوطنى الشريف الذى يُستشهد فى حرب فلسطين.. وفى محاولة أيضًا لإرضاء هذا المتفرج، يلجأ المخرج إلى نهاية مأساوية بشعة، حيث تلقى البطلة جزاء خروجها على التقاليد المحافظة المرعية- لارتباطها بعشيق رغم زواجها- بمقتلها كضحية للحب المُحرَّم رغم أن السيناريو والإخراج أبديا انحيازهما إلى سلوكها المشين باسم سطوة الحب، وهذا ما حدث أيضًا فى فيلم «إنى راحلة».
و.. تعيش الميلودراما.
نقلا عن المصرى اليوم