مصطفى الفقي
ربطتنى بأستاذى الدكتور بطرس بطرس غالى علاقة طويلة يشاركنى فيها نخبة من خريجى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة الذين تتلمذوا على يديه أو درسوا مؤلفاته أو تابعوا مجلتى الأهرام الاقتصادى والسياسة الدولية اللتين يرجع الفضل فى إصدارهما إلى الدكتور بطرس غالى بآرائه المتجددة ومبادراته الناجحة وأفكاره التى كانت تقرأ المستقبل وتوظف الحاضر لخدمته وتستعين بالماضى لفهم السوابق والانطلاق نحو الغايات، وهذان الإصداران لهما صيت ذائع لدى قراء العربية فى كل مكان حتى الآن، ولم أر بين أساتذتى فى كلية الاقتصاد من يملك عقلية أكثر تنظيمًا من أستاذى هذا، نعم إن حامد ربيع عالم السياسة الكبير أكثر غزارة فى المعرفة واطلاعًا على منصات الفكر الغربى المسيحى والفكر العربى الإسلامى فى ذات الوقت، وقد كان موسوعة تمشى على الأرض بكل المعايير، لكنه لم يملك أدوات بطرس غالى التحليلية وكفاءته التنظيمية، فقد تميز الدكتور غالى بقدرته على إدارة مجموعات من الباحثين أو الدبلوماسيين وتوظيف قدراتهم النسبية لأهدافٍ بحثية أو غايات علمية، وأتذكر الآن جيدًا عندما عدت إلى مصر عام 1977 حاملاً درجة الدكتوراة من جامعة لندن، وكيف استقبلنى أستاذى بطرس غالى بعد أن عرض علىّ غداة عودتى- من خلال الدكتور عبدالملك عودة- أن أكون مديرًا لمكتبه كوزير دولة لشؤون الاشتراكية الدولية، وما هى إلا أيام حتى جاءت مبادرة الرئيس الراحل أنور السادات بزيارة القدس، وتم تعيين الدكتور بطرس غالى وزيرًا للدولة للشؤون الخارجية، وقد جمعنى الدكتور بطرس ببعض تلاميذه المقربين أذكر منهم زميلى الراحل د. محمود مرتضى لكى ننهض بمجموعة بحث لإعداد كتب «الأوراق البيضاء» عن المشكلات الدولية والإقليمية، وبالفعل انخرطنا فى هذا العمل بدعمٍ من إدارة الهيئات الدولية ووثائقها التى كان مديرها حينذاك المستشار الشاب عمرو موسى، وبالفعل توالى إصدار مجموعة من الكتب البيضاء، كان أولها عن اتفاقيات كامب ديفيد، ثم العلاقات المصرية الإفريقية، ثم أوراق أخرى عن قناة السويس والسودان، وأصدرنا وقتها ما يزيد على عشرة كتب بيضاء تولتها بعدنا أجيال أخرى، كان فى طليعتها زميلى محمد نعمان جلال الذى أصبح بعد ذلك سفيرًا لمصر فى باكستان والصين، وحصل على جائزة الدولة التقديرية عام 2022، وهى الجائزة التى تشرفت بالحصول عليها منذ عشرين عامًا، ثم حصلت على جائزة النيل العليا عام 2010، ولقد كان الدكتور بطرس غالى يشجع الدراسة والبحث دومًا، وكنت أستشيره فى الأمور المتصلة بمستقبلى أنا وزملائى، وعندما وفرت لى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية درجة مدرس فيها بتدبير من الأستاذين محمود خيرى عيسى، عميد الكلية، وعمرو محيى الدين، أيقونة الكلية فى زمانه، ذهبت حينها إلى الدكتور بطرس غالى لكى أقول له إننى أريد التفرغ للعمل الأكاديمى،
وأنتقل للجامعة، لكنى رقيت مؤخرًا لدرجة سكرتير أول ولا أريد أن أبدد هذه الدرجة التى وصلت إليها فى وزارة الخارجية، فعين فى الجنة وعين فى النار كما يقولون، لكن أستاذى الراحل حسم لى الأمر فى الحال وقال لى إنك فى السلك الدبلوماسى تستطيع أن تمارس عملا أكاديميًا أيضًا، لكن العكس غير ممكن، فلا يستقيم أن تقوم بنشاط دبلوماسى من خلال وظيفة جامعية، وقد انصعت على الفور لتوجيهه الحكيم ولم أندم على ذلك أبدًا، وكانت المفاجأة عندما جاءت أول حركة دبلوماسية فإذا بنا نفاجأ بأنه نقل زميلى الدكتور محمود مرتضى إلى بكين ونقلنى إلى نيودلهى، واندهشنا كثيرًا لأن التقاليد المرعية كانت دائمًا هى أن يبعث وزير الخارجية أو زير الدولة المقربين منه إلى نيويورك أو لندن أو باريس، وغير ذلك من العواصم الكبرى فى العالم الغربى، وفوجئنا بالدكتور بطرس غالى ابن الجامعة يقود ثورة تحديث حقيقية ويوفد من يفضلهم إلى عواصم العالم ذات الثقل السياسى، وليست تلك المعروفة بأهميتها السياحية وسهولة الحياة فيها، وعندما دخلت إليه محتجًا قال لى إننى أوفدتك إلى الهند لأنك درست موضوع الأقليات فى الدكتوراة فى لندن، ويتعين عليك أن ترى أكبر تطبيق لها فى العالم المعاصر، فضلا عن أن نيودلهى هى عاصمة العالم الثالث بكل المعايير، وأشهد أن قوله كان صائبًا، وأن تفكيره كان سديدًا، فقد عدت من الهند بحصيلة معرفية أعتز بها كثيرًا حتى الآن.. وللحديث بقية.
نقلا عن المصرى اليوم