عادل نعمان
نقول دائما إن معرفة الأحوال والظروف والعادات والتقاليد فى زمن محدد ومكان بعينه أمر مهم وضرورى لفهم ماهية ودلالة النصوص والأحكام، هل هى أحكام عامة يلتزم بها الناس فى كل زمان ومكان، أو خاصة لزمن محدد وحيز مكانى معين؟ وكذلك منهج الدعوة وسبيلها ووسيلتها مرهون بما هو متاح ومتوفر ومتقن وصالح بين الأيدى اليوم غير غد، وهنا سوى هناك، فلو أن الرعيل الأول من المسلمين فى المدينة، ومنهم المهاجرون لها من مكة، كانوا يجيدون فنونا وحرفا أخرى غير القتال والغزو، لكان سبيل الدعوة قد سلك مسلك الحرفة والمهنة التى امتهنوها واحترفوها، فضلا عن كونه منهجا مألوفا لدى الإمبراطوريات المجاورة، ولأن غالبيتهم كانوا لا يجيدون سوى فنون الحرب، ويعتمدون فى معايشهم على الغنائم فقد أصبح منهج الدعوة وسبيلها ومشجعاً ومحفزاً لبلوغ الهدف كما أرادوا، وقد كان لهذا تأثير شديد فى بلوغ الدعوة.
وتبليغ الدعوة، كما هو واضح تاريخيا، عمل بشرى، سبيلها وملجأها وواسطتها إلى الناس على قدر علمهم وأعمالهم وما يجيدون من صنعة وحرفة واختصاص، وعلى ما تهيأ لها من إمكانيات وقدرات، وما يحمله الزمان والمكان من طبائع وسلوك وتقدم وحضارة، فلو بعثت الرسالة فى مصر فى حينها لكان للدعوة منهج ومسلك رجالها وطبائعهم، ولو كانت الرسالة فى عهدنا هذا، لاتخذت من العلوم والفنون والمهارات سبيلا وموئلا، وما كان الغزو منهجا معتبرا ومألوفا، ولا كان للأحكام التى رافقت أحوال المدينة وظروف أهلها وجودا أو حضورا، بل كانت الأحكام على ما هو سائد وواقع.
ومن حقنا أن ندرك هذه الحقيقة البسيطة من أن وسيلة الدعوة والأحكام والمعاملات لها ما يحيط بها من أحداث ومواقف وظروف وتنشأ وتخلق على ما تفرضه مجريات الواقع وما يجد من وقائع، وكلها متغيرة ومتباينة من زمن ومكان إلى زمن ومكان آخر، ولا يمكن اعتبار الحكم عاما وشاملا وهو حبيس زمانه ومكانه فقط، فمثلا كيف تتحكم العادة القبلية من غزو واقتحام واحتلال فى سير الدعوة، وتحط بهذا المنهج على كل الأزمنة والأمكنة، وقد كانت عادة جاهلية ظالمة، والدعوة فى أصلها خروج ومروق على كل صور الظلم حتى لو فيه من الخير الوفير، فإذا بها منهج الصحاب فى نشر الدعوة ولها من التأصيل الشرعى ما يحملها حملا إلى أماكن ليست وسيلتها وإلى أزمنة مستقبلية تعتبر هذا العمل همجيا ووحشيا، فضلا عن أنه يفرض نفسه منهجا أبديا فى ظل ظروف اجتماعية ترفضه إنسانيا وتجرمه مستقبلا، وتفرض السلام وحرية الرأى والفكر والدين حقا للإنسان يرتضيه ويراه متوافقا مع فكره وحريته وحياته
وحتى نصل إلى المراد، فإنه من الضرورى أن نربط النص القرآنى وحكمه ودلالته بسبب النزول، وليس على مطلق اللفظ، ولا يعزل عن سياقه وظروفه التاريخية، فما من حكم إلا وكان له حدث معين وظرف خاص أو واقعة أو خلاف أو تحد بين الرسول والسائل، وما من آية إلا وكان لها سبب يفرض نفسه ويستوجب له نصا محددا، عدا القليل والنادر، ولو استبعدنا سبب النزول لكان لنا فهم آخر يختلف المفسرون حوله، والأرجح أن يحمله الناس على غير مراده، أو يكرهوه على ما لا يحب، فيكون محل خلاف وشقاق وتناحر.. مثال (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم) وسبب النزول أن بعض المهاجرين تخلفوا عن الهجرة بعد الوعد على ذلك، حين أبى أولادهم وأزواجهم عليهم الهجرة، ومنعوهم خوفا من تشريدهم وضياع أموالهم، ولفظ «عدو» خصم ومنافس ومانع عن اللحاق بالنبى، إلا أن هذه الآية لها مدلول واستخدام آخر عند الناس، والحقيقة المعتبرة أن تفسير الآيات إذا انفصل عن الواقع الذى أنتج هذه الآيات، أو السبب والمناسبة التى ساقته إلى صاحب الرسالة لكان لكل مفسر شأن آخر.
ولا أتصور أن الأحداث والوقائع والمواقف والتحديات والأزمات التى واجهت النبى فى مكة والمدينة وفرضت نصوصا وأحكاما لها، تتكرر بحذافيرها فى زمن آخر أو مكان آخر، حتى تكون هذه المواقف والأحكام أبدية، بل لكل زمن أحداثه ومواقفه، ومن ثم نصوصه وأحكامه، فلن يكون زيد هو زيد، ولا زينب بزينب، ولا حديث الإفك بحديث صدق أو كذب، ولا كانت رحلة المعراج ببراق بل بسفينة فضاء بالذرة!! وكان الجهاد على لقمة العيش بالعمل والعلم والشرف وليس بالغزو والسطو، وكان السبى عملا غير أخلاقى ومخالفا للقانون، الخلاصة: الأحكام والمعاملات خاصة وليست عامة، ولكل مجتمع ما يتوافق عليه ويراه صالحا له، ولكل مجتمع ثقافته وعلاقاته ومعاملاته، ولكل زمان ظروفه وأحواله واحتياجاته، مما يجعل الناس أعلم بشؤون دنياهم!!.
نقلا عن المصرى اليوم