عاطف بشاي
هذا التساؤل- الذي كثيرًا ما نسمعه يتردد على ألسنة المحتشدين أمام دُور العرض السينمائية، موجهًا إلى الجماهير المنصرفة من إحدى الحفلات- الذي يُثار بكثير من اللهفة والاهتمام، حيث تعنى الإجابة عنه بالسلب أو بالإيجاب أن ينساق السائل للاتجاه إلى شباك التذاكر للحصول على تذكرة دخول أو الانصراف غير آسف إلى سينما أخرى تعرض فيلمًا آخر، معتبرًا نفسه قد نجا من مقلب يكلفه نقودًا، ويتسبب في «عكننة» مزاجه وتعكير صفوه، والحقيقة أن ذلك الأسلوب المعيب الذي يسلكه الفرد في اتخاذ قرار ما اعتمادًا على الآخر للأسف يشكل في النهاية رأيًا جماعيًّا بالقبول أو الرفض يطلقون عليه ذلك الاكليشيه الخاطئ الذائع المسمى «الذوق العام» ضمن اكليشيهات كثيرة مغلوطة مثل «مع مراعاة الآداب العامة»، التي يُذيَّل بها تقرير الرقابة على السيناريوهات.. فأى ذوق عام ذلك الذي يجمع في قاعة العرض المظلمة التي يصطف فيها النظارة، يمثلون رهطًا من البشر غير المتجانس من أعمار وأجناس مختلفة ومستويات تعليمية وطبقات اجتماعية متعددة وثقافات متضاربة وميول متفاوتة وأذواق متنافرة لا تجمعهم في النهاية راية مذهبية واحدة أو اتجاه فكرى أو سياسى أو اجتماعى مشترك.. وبالتالى، فإن الإجماع على رأى واحد أمر صعب الحدوث.

وإذا افترضنا أن هناك إجماعًا على الإعجاب بفيلم، فإن أسباب الإعجاب دائمًا مختلفة، فقد يُعجب البعض بالقصة أو السيناريو، والبعض الآخر يُعجب بأداء الممثلين.. والبعض الثالث بالإخراج.. وهكذا.

كما أنه- وهذا ما يعنينا في هذا المقال- أن الإعجاب «الجمعى» أو «الاستياء العام» لا يمثل بالضرورة حكمًا صائبًا وتقييمًا فنيًّا صحيحًا.. فمثلًا عند عرض الفيلم الرائع «باب الحديد» للمخرج الكبير «يوسف شاهين» قوبل باستهجان شديد من النظارة، الذين هتفوا في غضب جامح، وبالإجماع: «سيما أونطة.. هاتوا فلوسنا»، وكادوا يحطمون الكراسى الجالسين عليها.. وتصبح المفارقة الصارخة أن يرشح الفيلم في مهرجان «كان» ويحوز جوائز كثيرة، ويعتبره النقاد واحدًا من أجمل وأعظم أفلام السينما المصرية في تاريخها كله.. ذلك أن التقييم الحقيقى يمارسه نقاد متخصصون وليس عامة المتفرجين.. ومن هذا المنطلق يمكننا أن نؤكد بديهية أن كثيرًا من التقييمات والأحكام والقرارات في مجالات مختلفة، تمثل أنشطة إنسانية متعددة أو تصدرها مؤسسات وأجهزة وهيئات مدنية، لا ينبغى أن يستجيب فيها المسؤولون لضغوط الجماهير الغاضبة لظاهرة ما أو المؤيدة لاتجاهات بعينها.. فكما أن النقاد المتخصصين هم المنوط بهم تقييم الأفلام والمسرحيات والمسلسلات الدرامية فإنه لا يجوز مثلًا الرضوخ لرغبات المشجعين الكرويين بانتماءاتهم المختلفة في الملاعب أو من خلال الصيحات الغاضبة الهادرة في وسائل التواصل الاجتماعى من أجل إقالة مدرب والمطالبة بفرض بدائل معينة من المدربين العالميين أو المحليين لأنها الأفضل.. فيتحول المتفرج بذلك إلى ناقد رياضى حصيف ومحلل كروى صنديد ومدرب محترف عتويل.. ومعلق عتيد وخبير قدير يرسم الخطط ويضع التشكيل ويرصد الأخطاء ويحاسب الحكام المارقين ويمنح اللاعبين الألقاب المشجعة أو الساخرة، ويدعم المواهب البازغة ويطيح بالعناصر الخائبة.. ويعاقب المقصرين بهتافات معادية.. بينما من المفترض أن يتم ذلك من خلال مسؤولين ولجان متخصصة تقوم بدراسات موضوعية وعلمية وأسباب منطقية يعكف على بحثها المتخصصون.

أما في مجال التعليم فقد كان من الصادم والمؤسف ما تم تداوله مؤخرًا- والعهدة على الراوى- حول شروع الوزير الجديد للتربية والتعليم، (د. رضا حجازى)، في تغيير مناهج السنة الرابعة الابتدائية، التي سبق أن قام بتغييرها الوزير السابق، (د. طارق شوقى)، سعيًا إلى التطوير المحمود والمنشود، الذي بُحَّت أصواتنا سنوات طويلة مطالبة به على مر عهود مختلفة دون جدوى.

لكن تغير التغيير في الوزارة الجديدة يشِى بالنكوص أو العودة إلى الخلف بإلغاء ما تم إنجازه واعتماده في رحلة التطوير، التي كان من المفترض أن تشمل مناهج السنوات التالية انتهاء بالثانوية العامة، وذلك استجابة لأصوات الجماهير الصاخبة المستنكرة الرافضة من أولياء أمور الطلبة المحتشدين خارج لجان الامتحانات يستقبلون أولادهم الباكين لصعوبة الامتحانات، التي تسعى إلى نسف سياسة «المباشرة» و«النقل» ورفض طرق التدريس التي تعتمد على التلقين والحفظ، ومن ثَمَّ العمل على إلغاء خطط الوزارة الاستراتيجية، التي كانت تعلنها دائمًا بجسارة وزهو وفخر بالحرص على أن تكون أسئلة الامتحانات في مستوى الطالب المتوسط مع التزامه بسياسة الوزارة بإلغاء ومحو التفكير، وهى سمات يتحلى بها الطالب النابه الذكى تطبيقًا لفضيلة عدم التمايز بين الممتحَنين وتماشيًا مع مبادئ العدالة الاجتماعية، فالكل سواسية.. نوابغ ومتوسطين وبلداء.

لابد إذًا من المحافظة على قدسية الحفظ والصم والثبات على المناهج المتخلفة وازدراء المعرفة والوعى والابتكار وإقصاء العقل باعتباره من الكبائر المحرمة.

وهكذا، فإن الرضوخ لـ«العامة»، والانتصار لقناعات الجماهير المناهضة للتنوير، والاستجابة لشعبوية الغوغائية الغفيرة.. وجروبات «الماميز» القاتلة.. هو الخطر الداهم والداعم للتخلف الحضارى.
نقلا عن المصرى اليوم