عادل نعمان
ذكرنا فى المقال السابق أن نزول الأحكام والنصوص كان لظرف تاريخى معين «عدا القليل منها»، ولكى نفهم ماهية الحكم ودلالته والقصد والمقصود منه، فإن الأمر يستلزم ربط الحكم، ومن ثم النص بسبب النزول، وكذلك الأحوال والظروف والأحداث التى صنعت هذا الحكم وبسببها نزل النص، وهو ما نسميه «الظرف التاريخى».

ولقد كان الحكم نصا ينزل وحيا على الرسول إذا ما سئل عن واقعة أو مسألة معينة استدعت حكما جديدا وعطلت القديم أو أبقت أو عدلت الحكم القديم.. ولنأخذ هذا المثال: ذهبت أم لابنتين إلى الرسول وقالت: يا رسولَ اللَّهِ، هاتانِ بنتا ثابتِ بنِ قَيسٍ قُتِلَ معَكَ يومَ أُحدٍ، وقد استفاء عمُّهُما مالَهُما وميراثَهُما كُلَّهُ، «استفاء المال أخذه فيئًا أى غنيمة»، فما ترَى يا رسولَ؟) والعم هنا لم يخالف شرعا قائما وهو ألا تورث النساء، وكذلك كل من لم يشارك فى الغزو من الصغار أو الكبار لعدم مشاركتهم فى صناعة هذا المال)، فواللَّهِ لا تُنكَحانِ أبدًا إلَّا ولَهُما مالٌ، فقالَ لعمِّهِما: أعطِهِما الثُّلُثَيْنِ وأعطِ أُمَّهُما الثُّمنَ، وما بقى فلَكَ، وفقًا لنزول الآية: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِى أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا ترك).. إلخ الآية.

والسياق التاريخى لهذه الآية أن المرأة فى القبائل التى كانت تمتهن حرفة الغزو لم تكن تورّث لعدم مشاركتها فى صناعة هذه الثروة، إلا أن القبائل التى كانت تمتهن وتحترف الزراعة والتجارة والرعى كان منها من يورث النساء نصف الرجال على قدر مشاركتهن فى تكوين هذا المال، حتى جاءت مشكلة هذه السيدة فكان الحكم لها بنصف ميراث الذكر تماشيا مع المقبول والموافق عليه والذى كان يحقق قدرا مقبولا من العدل القائم والمرضى عنه عند قبائل ذات صدارة ووجاهة (قبيلة ذى المجاز، قبيلة خزاعة، بن النفيل).

وقد كان الهدف من الحكم هو تحديد نصيب الذكر الذى كان يحصل على كل الميراث دون النساء، ووضع الحد الأقصى الذى يمكن قبوله ولا يتجاوز ضعف الأنثى، ويضع حدا لتغول الرجل على حق النساء، وضمان الحد الأدنى للنساء المحرومات، وقد كان معمولا به ومسموحا عند القبائل الأكثر عدلا وحكمة.

ولم يكن هذا مقبولا عند الرجال، ومنهم من طالب البعض بالاعتراض عليه لم يكن الحكم نهائيا بل توافقى ومرحلى ويراعى مصالح ومطامع الرجال، وكذلك الحد الأدنى لحق المرأة، التى واجهت ومازالت صعوبات كثيرة فى تنفيذ هذا الحد الأدنى.. الأمر يختلف الآن، فهى شريكة فى صنع الثروة كالرجل تماما، بل تنفق على الأسرة كما ينفق كل الرجال، وتتحمل تكاليف المعيشة كاملة دون سند أو معين، وتشارك الرجل فى تربية الأولاد، بل مِن النساء مَن تتحمل أعباء الأسرة كاملة.

والمثال الثانى «شهادة المرأة» وما جاء فى القرآن خاص بالمعاملات المالية، قال تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتُذكر إحداهما الأخرى).

وهو حكم خاص بالمعاملات المالية، ولم تكن للنساء على وجه العموم خبرة أو عهد بها، وهو أمر منطقى يحتاج إلى مهارات وخبرات بعيدة عن غالبية النساء فى هذا الوقت، وقد كانت مهمة المرأة فى الجزيرة العربية مقصورة ومحدودة فى قضاء شهوة الرجل وإطعام الأولاد والدواب، وقد حرمها هذا من التفاعل والتجاوب مع الأحداث وتنمية المهارات والخبرات، فلم يكن لديها من المعارف ما يؤهلها للشهادة أو حتى التعامل.. أما وقد دخلت المرأة كافة المجالات والأعمال، وأصبح لديها من الخبرات والقدرات ما يساويها بالرجال، فلا يمكن أن تكون شهادة الأستاذة بالجامعة أو الوزيرة نصف شهادة سائقها أو عامل لديها كونه رجلًا.

واقرأوا ما قاله شيخ من شيوخ الحنفية وهو «بن عابدين»: (كثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغيُر عُرف أهله، أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقى الحكم على ما كان عليه لزم منه المشقة والضرر بالناس)، وهذا الفقيه المالكى القرافى: (إن جميع أبواب الفقه المحمولة على العوائد «المنافع والفوائد» تتغير أحكامها إذا تغيرت هذه العوائد).

ولنا حديث آخر..

«الدولة المدنية هى الحل».
نقلا عن المصرى اليوم