فاطمة ناعوت
هذا سبتمبر. فيه وُلِدَت أمّى، وفيه ولدتنى، وفيه رحلت وتركتنى ويدى مازالت معلّقةً فى طرف ثوبِها. الأمومةُ لغزٌ محيّر لم تفكّ الحياةُ شفرتَه بعد. شعورٌ عجيب يضربُ قلبَ الأمّ وهى تنظرُ إلى طفلها، حتى وإن صار مع الأيام صبيًّا ثم شابًّا، ثم رجلا، ولو صار كهلا وأمُّه مازالت إلى جواره. شعورٌ يشبه طعم الجنّة ومذاق النعيم.
أقولُها اليومَ من منطق الأم، بعدما صرتُ أمًّا. أنظرُ نحو ابنى، الذى صار شابًّا جميلا، فتنفلتُ من قلبى خيوطٌ كثيفة من العشق والفرح والقلق، ثم تتشابكُ الخيوط لتصنع نسيجًا كأنه بساطٌ يودُّ أن يحملَ طفلى لئلا يسير على الأرض فتجرحُ الحصواتُ قدميه.
أحملُ أطفالى فى عينى وأسيرُ بهم إلى حيث شاءوا، وكأنما أودُّ ألا ينفلتوا من مشيمتى ولا ينقطع حبلُهم السُّرى. أفكِّر وقتها: يا إلهى! أهكذا كانت تشعرُ أمى، وأنا لا أدرى؟! لا يعرفُ تلك المشاعرَ العجائبية الملغزة إلا حين نخبُرها. لكنَّ الأمهات يمضين إلى حيث تمضى الأمهاتُ ولا يعدن. فلا يعودُ العالمُ كما كان. تغلّفه سحابةٌ من الوجل كمن كان يجلس ساندًا ظهره إلى جذع شجرة يستظلُّ بوارف ظلالها، وفجأة يأتى حطّابٌ ويجتثُّ الشجرة لتسقط وتتركه تحت لفح الهجير وسيول المطر.
الظَّهرُ يغدو دون سند، وغيمةُ الفقد تُدثِّرُ الحياةَ بدِثار الخوف. «وخزة شوكة» تخزُ القلب حين تموتُ أمهاتُنا. ولكن، ثمة بعض عزاء. فأرحمُ ما فى موت الأمهات أنهن لن يَمُتن مرةً أخرى. ينتهى فجأةً رعبُ المرءُ من فكرة فقد أمّه. أذكرُ، وأنا طفلة، أنى ظللتُ أعيشُ ذاك الرعب، منذ أدرك عقلى معنى الموت والحرمان ممن نحبُّ إلى الأبد.
إن تأخرتْ فى العمل، أقفُ بالشرفة، مثل عصفورٍ يرتعد. تتلفّتُ رأسى لأمسحَ الشارعَ من طرفيه، والخوفُ يفترسُ طفولتى: ألن أراها أبدًا تدخلُ من مدخل العمارة؟! وحينما كانت تمنعنى من اللعب وقراءة «ميكي»، كان «الشريرُ» داخلى يرسم لى عالمًا رغدًا بلا أمّهات يُجبرن أطفالهن على شرب اللبن والمذاكرة والحرمان من الأصحاب واللعب والحلوى، لكنْ سرعان ما ينتفضُ «الطفلُ» داخلى، فأتوقُ للدفء، وأركضُ نحوها.
وحين مرضتُ، مرضَها الأخير، كنتُ أعودُ من المستشفى لأناصبَ التليفونَ العداء. كلّما رنَّ، خفقَ قلبى هلعًا من سماع ما أكره. حتى عدتُ إلى بيتى مساء ٥ سبتمبر، لأجد الأنسر ماشين يحمل صوت خالى «أسامة» يقول: (فافى حبيبتى، البقاء الله، «سهير» تعيشى انتى!) انهدم العالمُ من حولى، وانكسر ظهرى وسندى، لكن رعبى من فقدها تبدّد للأبد. لن أفقدها غدًا أو بعد غد! فقد فقدتُها بالفعل!.
لم تقنع أمى يومًا أننى صرتُ بنتًا كبيرة، ثم فتاةً، ثم مهندسةً، ثم كاتبةً، ثم أمًّا لطفلين! ظلّت ترانى وشقيقى الطبيبَ طفلين! تزورنا فى المدرسة لتراقبَ أداءنا الدراسى. ثم تزورُنا فى الجامعة فيضحكُ الزملاءُ! يملؤنى الحنقُ من الاستبداد واستصغار الشأن، غيرَ مُدركةٍ بعد، أن الأمَّ تظلٌّ ترى صغارَها صغارًا، وإن كَهِلوا. الأديبُ المصرى السويسرى «جميل عطية إبراهيم» كلّمها بالهاتف يومًا ليخبرها أنه كان «يكره» «فرجينيا وولف»، لكنّ ترجمتى العربية لرواياتها صالحته على عالم «وولف» الصعب. فما كان منها إلا أن قالت له: «بس عنيدة ومش بتسمع الكلام!».
ساعةُ حائط العتيقة هذه المعلّقة أمام مكتبى، كانت فى بيت أمى. كلما زرتُها أمرتنى أن أملأها. مصممو الساعات عنصريون. الزنبرك تملأه يدٌ يُمنى. وأنا عسراء! وعبثًا أحاول إقناع أمى أن يمناى أضعفُ من لفّ الياى، ويسراى القويةَ تتعثر فى اتجاه الدوران! فتقول بوهنٍ: «رنينُها يؤنسُ وحدتى!» كنتُ أمقتُ تلك الساعة، وأغارُ منها! لكنْ، حين رحلت أمى، وضعتُ كلَّ حبى ووحشتى، فى رنين تلك الساعة التى أضحتْ أمّى البديلة، إن كان للأمّ بديلٌ. إن توقف دقُّها، أهرعُ وأملؤها بكلتا يدى، لكى يعودَ صوتُ ماما يصدحُ فى أركان بيتى، فينهمرُ الدفءُ. وتحوّلت ساعةُ الحائط إلى أيقونةٍ تظللنى بالرحمة.
ربما متأخرًا جدًّا، أشكرك يا أمى على حبّك الذى لم أدركه فى وقته. شكرًا على «مستر وليم» الذى أقنعتِه أن يتواضع ويأتى من الجامعة الأمريكية ليدرّسَ لطفليك أصول الإنجليزية. على «العروسة» التى اشتريتِها وأقنعتنى أنه مَن اشتراها لكى أحبّه وأتعلّم منه. على تسجيلك الحصصَ على «جروندج» لكى نظلَّ نستمع إليها حتى موعد الحصة القادمة. شكرًا على تعليمك لى الالتزام فى القول والعمل. شكرًا على خوفك المفرط علىّ، الذى أزعجنى، لكنه حمانى من المصاعب.
عيدُ ميلادك بعد أيام، وذكرى رحيلك كانت قبل أيام، وأنتِ فى السماء، حيث العصافيرُ والزهرُ والبراءة والجمال، وحيث الله وحنوّه. كل سنة وأنت طيبة يا ماما. أجملُ ما فى رحيلك أنّنى برأتُ من خوفى من رحيلك! لأن لا أحدَ يرحلُ مرتين.
نقلا عن المصري اليوم