خبرات روحيّة ثمينة
هذه بعض التأملات الاختبارية العميقة، انتقيتها لكم من كتاب:
القمص يوحنا نصيف
هذا الكتاب هو مذكّرات وخبرات روحيّة سجّلها في أواخر حياته الأب الراهب صفروني (تنيّح عام 1993م)، وهو من آباء كنيسة الروم الأُرثوذُكس.. وقد قمت بتصنيف الموضوعات بقدر الإمكان، مع كتابة بعض التعليقات التوضيحيّة البسيطة (بين أقواس).. راجيًا أن تكون هذه الخبرات الشخصيّة سبب بركة للساعين في طريق الملكوت.
* عن التواضُع:
+ الله هو التواضُع. ليس من كائن أو شيء نجس، أعني متكبِّرًا، يمكنه الاقتراب منه.. الكبرياء هو نقيض الخير. الكبرياء هي الظلمات بكل هولها. الكبرياء هي قاعدة الشرّ وجذر كلّ المآسي، بذرة الكُره، محطِّم السلام، عدو النظام الموضوع لنا من الله. في الكبرياء يكمن روح الجحيم، والطريق الوحيد الذي بإمكانه أن يخلِّص الإنسان من هذا الجحيم هو التوبة.
[لنلاحظ أنه يصف المتكبِّر بالنجس، لأن الكبرياء يدنِّس الروح.]
+ الكبرياء تحوِّل طريق الإنسان عن الله، وتجعل منه دائرة مغلقة ومُقفلة على ذاتها. مهما كان المتكبِّر موهوبًا عقليًّا، فإنه سيبقى دائمًا وأبدًا خارج مدار حُبّ الله الكوني.
[نلاحظ أيضًا أنّ المتكبِّر هو الذي يحرم نفسه من محبة الله، فكبرياؤه يشكِّل عائقًا يحجزه عن نعمة الله ونوره.]
* عن الحُبّ والدموع:
+ حيث لا يوجَد حُبّ، لا توجَد أيضًا الدموع. حتّى لو بلغَت جهود النُّسك أقصاها..!
[الدموع هي إحدى علامات تلامُس القلب مع الحب الإلهي.. والقول السابق يتّفق مع قول الإنجيل: "إن سلّمتُ جسدي حتى احترق ولكن ليس لي محبّة فلا أنتفع شيئًا" (1كو3:13)]
+ عندما يستولي علينا روح التواضُع، تنسكب الدموع من أعماق القلب.
[بالفِعل يستحيل على الذي يتملّكه روح الكبرياء أن يتذوَّق طعم الدموع الروحيّة]
+ الذين يسكبون الدموع الروحيّة، يسامحون بسهولة عن كلّ الظُّلم الذي عانوه، لأنّ روحهم تكون قد ارتقت من الأرض إلى السماء. وبالروح القدس يَقوَى ذلك الإنسان حتى على حُبّ أعدائه.
+ المُعزِّي، روح الحق هو يعلِّمكم كلّ شيء.. هو يعلِّمنا أن نفكِّر كما الله نفسه يفكِّر، وهو يعلِّمنا أن نحبّ كما الله يحبّ..!
+ إن الحياة المسيحيّة تتولَّد من اتّحاد إرادتين والتحامهما: الإلهيّة، التي منذ الأزل.. والإنسانيّة الخاضعة للتقلُّبات. الله يَظهَر للإنسان بطرق مختلفة متنوِّعة، ولا يفرض ذاته بعنفٍ على الإرادة البشريّة. فإذا ما قبلناه بحبّ، حين يقترب مِنّا، فإنّه يزور أرواحنا مرارًا عديدة برِقّتِهِ وتواضُعِهِ..
* عن الألَم:
+ الألم مملوء معنى، هو يلقّنني أسرار الكيان.. بفضل الألم أصير أنا شفوقًا رحومًا.. هو مرحلة لا غنى عنها في نموّنا، انطلاقًا من الأبعاد الأرضيّة، وصولاً إلى الأبعاد الكونيّة، ومِن ثمَّ إلى الأبعاد الأبديّة.
+ الألم وَسَّع جوانب قلبي المتحجِّرة.
* عن التوبة:
+ إذا ما وقفنا أمام الآب السماوي بضمير عارف لخطيئته، نكون قد وضعنا أنفسنا في خطّ معرفة الحقيقة الإلهيّة. وكلّما عِشنا بعمق وأحسسنا بخطيئتنا كموتٍ قد أصابنا، كلّما ازددنا تسليمًا لذواتنا جذريًّا بين يديّ الله في الصلاة.
+ بإفراغ الذّات إلى المنتهى في فِعل توبة، نستطيع أن نقتني ملء الحُبّ الإلهي وحُبّ القريب، بهاتين الوصيّتين يتعلّق الناموس كلّه والأنبياء، وفي روحهما توجَد الأبديّة المقدّسة.
* عن عِشرة الله:
+ إن كل حُب يمرّ بتجارب، والصداقة الحقيقيّة تَظهر في الشِّدّة. وحين يكون الحُبّ أقوى من الموت، فهو حُبٌّ كامل.
[بالتأكيد حُبُّ المسيح لنا إلى المنتهى هو نموذج الحُبّ الكامل].
+ إنّ كرامة النَّفْس كبيرة؛ لدرجة أنّه إذا ما كان عليها أن تخسَر خلاصها لكي تربَح العالم، فإنّ كلّ خيرات الأرض لا تستطيع أن تعوِّض تلك الخُسارة..!
+ بدون الصلاة لا تقود "الخبرة" الروح والنفس إلى الغلبة على الأهواء..
[كان في حديثه يقصد خبرة التجارب والصليب.. فهي تكون مفيدة جِدًا للإنسان إذا ما مُزِجَت بالصلاة].
+ إنّ الله ليس سهلاً دائمًا مع الإنسان.. ففي فترات طويلة من حياتنا كَكُل، حين تتخلَّى النعمة عن الإنسان.. يَظهر الله وكأنّه إله ظالم مُستَبِدّ، والإنسان رغم كلّ جهاداته وأتعابه الطويلة المُكَثّفة يحسّ أنّ الرحمة الإلهيّة قد تخلَّت عنه، فيُعاني آلامًا هائلة، حتّى أنه.. يطلب الموت..!
[لكن في الحقيقة هذا هو طريق الحياة والمجد].
+ تجربة التخلِّي الإلهي لها معنى عميق، وليس بمقدورِنا تحاشيها.. إنها تعطي للإنسان إمكانيّة إظهار حرّيته وأمانته لله..!
+ المسيح تمجّد وتعظّم بعد نزوله في عمليّة إفراغ الذات (أخلى ذاته) أكثر مِن أي أحد سواه.. قبِلَ بإرادته عِقابًا مُهِينًا خاصًّا بالمُجرمين.. وكان مُعلَّقًا على الصليب عاريًا أمام أمِّهِ وأمام عيون النّسوة اللواتي كُنّ قد تَبِعنَهُ ليخدمنَهُ.. وتركه تلاميذه.. ونظر الفَشَل التامّ لبشارته..
هذا النوع مِن التخلِّي الإلهي هو القُطب الآخَر للحُب الإلهي..!
+ مِن المستحيل وصف آلام المسيح.. ليس من إنسان مخلوق يفهمها. تمامًا كما أن الأولاد لا يَعُون التضحيات التي يتكبّدها آباؤهم وأمهاتهم ومعلّموهم حتى يُنشِئوهم، وينقلوا لهم الخِبرات التي اكتسبوها بآلامٍ كثيرة في حياتهم، هكذا فإنّ الناس لم يفهموا المسيح. حتّى القِلّة العزيزة التي شذّت عن القاعِدة لم تفهمه سوى جُزئيًّا..!
[يقصد وقت الصليب.. فالأغلبيّة وقتها لم تكُن تستوعِب أبعاد ما يفعله المسيح من أجل خلاص العالم.]
+ الله متعطِّش لكي نبلغ الكمال. إنّه إذ يتركنا نصارع العدو وأنفسنا صراعًا مريرًا، يتوق إلى رؤيتنا ظافرين. وإذا ثبتنا معه في هذا الصراع، ولم نتحوّل عنه -حتّى في أقسى ساعات إذلالنا من العدو- فإنّه، بلا شكّ، يأتي لنُصرتنا. إنّ الغالب هو: "هو" وليس نحن، لكنّه يحوِّل الانتصار لنا، لأنّنا نحن الذين تألّمنا..!
+ عندما يتطلّع الإنسان ويستدير تمامًا تجاه الله، فإنّه ينال نعمة تُرافقه وتنيره في فهم الكثير من أسرار الحياة المَخبوءة في الله.
* عن الجهاد الروحي:
+ إنّ الخطيّة هي دومًا تَعَدٍّ على محبّة الاب أو هي ابتعادٌ عنه. إنّ حربنا هي من أجل استعادة البراءة الأولى لاتحادنا مع الله.. وهذه الاستعادة لن تتحقَّق إلاّ بالتوبة.
+ إنّ بدء الكفاح المُنتصِر على الخطيّة يرتكز على الابتعاد عن الأماكن والأشخاص والظروف المُرتبطة بسقوطنا..
+ إن التخلِّي عن الملذّات التي تجتذب الإنسان لا يكلِّفنا ثمنًا باهظًا، إذا ما قورِنَ بذوق الله وتفضيلنا التحدُّث معه على أيّ شيء آخَر.
+ الإلهام الحقيقي المقدَّس الذي ينزل من فوق.. لا يُفرَض على الإنسان بالقوّة. إنّه يُقتنَى كعطيّة إلهيّة بجهادٍ كثير وشديد في الصلاة.
+ إنّ سلام المسيح هو أثمَن من كلّ الثروات والغِنى والأفراح والتعزيات الدنيويّة.
+ الاكتفاء الذّاتي هو علامة الشّلل الروحي.
+ نحن نحيا على رجاء أن يكون الله معنا ساعة موتنا إن كُنّا نحن معه في جهادنا..!
+ صلواتي تركَت آثارًا لا تُمحَى في كياني..!
+ في كلام المسيح تكمُن الحياة الإلهيّة، والذي يفتح قلبه له إلى المُنتهى يُصبِح شبيهًا بالله..!
+ أنا لست الكائن الأوّلي الأساسي، لكنِّي صورته المَخلوقة.. وانا مَدعو إلى أن أُحقِّق في نفسي تشبُّهي الشّخصي به، باتّباع الوصايا الإنجيليّة.
[هنا يظهر لنا بوضوح أن تنفيذ وصيّة الإنجيل في حياتنا هي التي ستشكِّل صورة المسيح فينا.]
+ ليس من مأساة أعظم من عدم معرفتنا الإله الحقيقي. ففي ظلمات هذا الجهل يفقد كلّ شيءٍ معناه.. وبالعكس ليس من سعادة حقيقيّة أكبر من لقائنا الإله الحيّ. ففي نور هذه المعرفة يَكتسِب كلُّ شيءٍ مَعنى عميقًا، ليس فقط حالات الرّخاء بل الأوضاع المأساويّة الموجِعة أيضًا، ولِذا تصير مُحتَمَلَة ومُبَرَّرة (2كو4: 6-11).
+ الناموس الذي أعطاه موسى كان يحوي بذارًا، إذا ما نبتت باستطاعتها أن تهيِّئ الناس لمعاينة "التجسُّد الإلهي".
+ يُشيِّد المسيحي حياته الأرضيّة والأبديّة بتطابُق مع الرؤيا التي أُعطِيَت له بالنِّعمة.
+ إذا لم تكُن الحرّيّة ممهورة بكامل المعرفة فإنها تتحوَّل بسهولة إلى شرٍّ.
[أي أنه بدون المعرفة والحكمة يمكن أن ينحرف الإنسان، بالحرّيّة التي وهبها الله له، إلى الطريق الخطأ.]
+ الصلاة العميقة تأتي تدريجيًّا، فالجسد والروح يعتادان ببطء وبتمهُّل عليها..
+ إنّ تمام معرفة الله العليّ وملئها لم يختَفِ من على وجه الأرض.. بل محفوظ في الكنيسة، في التقليد والقُدَّاس..
+ كلّ ما علّمَتنا إيّاه النعمة مرّة، علينا تتميمه طيلة حياتنا وحتّى منتهاها..
القمص يوحنا نصيف