خالد منتصر
ما زالت ثقافة الاعتراف بأن هناك مرضاً اسمه المرض النفسى، وطباً اسمه الطب النفسى، وطبيباً متخصصاً دارساً اسمه الطبيب النفسى، ما زالت تلك الثقافة غائبة عن مجتمعنا، ولا نعترف بها ونتعامل معها باستخفاف خاصة فى الريف، وكلما تفاءلت بأن المجتمع المصرى قد اقتنع بأن الطب النفسى مهم، وأن هناك من الأمراض النفسية ما يستحق الحجز فى مستشفى، وأن المرض النفسى لا تكفى فيه الطبطبة والكلام، وأن الدجالين والنصابين الذين يفكون الأعمال ويجندون الجان مكانهم الطبيعى السجن وليس مكانهم القصور الفخمة التى يعيشون فيها من تجارتهم الرائجة نتيجة جهل الناس وقلة ثقافتهم، أكدت لى جريمة دكرنس الأخيرة ذلك كله وأثبتت أن هذا التفاؤل كان مجرد وهم، وأن الوضع ما زال «محلك سر» فى تجارة الخرافة.

ما هى تلك الجريمة؟ العنوان «ذبح رجل يصلى فى الجامع»، تفاصيل محضر الشرطة تقول: أكد شهود عيان أن المتهم «صابر فرج عبدالسلام»، 33 سنة، تربص بالمجنى عليه «الشربينى عوض المتولى الخواجة»، 48 سنة، حتى دخل المسجد ثم دخل خلفه، وكان المجنى عليه فى الصف الأول بينما كان المتهم فى الصفوف الأخيرة، وقام بالصلاة والتحرك أثناء انشغال المصلين بالصلاة حتى أصبح خلف المجنى عليه مباشرة، وأثناء قيامه من السجود نحره بسكين كانت بحوزته، وحدث هرج بالمسجد، وتوقفت الصلاة، بينما حاول إمام المسجد الكفيف إعادتهم للصلاة لعدم علمه بما يحدث.

وأضاف شهود العيان: «المجنى عليه وقف والسكين ما زالت برقبته وهو ينطق الشهادة بينما حاول البعض إنقاذه بإخراجه من المسجد، وتم نقله للمستشفى بتوك توك لكنه توفى فى الطريق».

انتهت التفاصيل البوليسية الأمنية، ولكن ما هى الكواليس الاجتماعية الثقافية؟ هذا الرجل نرى مثله كثيراً، وتكرر ما فعله فى حوادث كثيرة من الممكن ألا تنتهى كلها بالقتل، لكنها تكررت، ومعظمها تعامل الناس معها باستخفاف على أن المريض راكبه جن أو معمول له عمل، ببساطة هو مريض عقلى بالبارانويا الدينية، يحسب نفسه نبياً ويدّعى أنه المهدى المنتظر وتهاجمه هلاوس وضلالات، ما حدث مع قاتل دكرنس وسمعته من تصريحات أهل القرية، أنهم مقتنعون بأنه قد ركبه جن واتعمل له عمل منذ أن قام بنقل رفات أبيه من المقبرة، ولم يلفت نظرهم ما يكتبه على حوائط القرية من تهديدات ومواعظ وما يخطه من رسومات غريبة، هل فكر أحد فى الذهاب معه إلى طبيب نفسى؟ لا وألف لا، فهم لا يعترفون بالطب النفسى الذى لا يعتبرونه طباً على الإطلاق، هم يريدون شيئاً محسوساً مثل ألم عظام أو تعب فى التبول أو مغص.. إلخ حتى يعترفوا بأنه مرض!!

تركوه يكتب ويهدد ويهلوس ويعتبر أن جاره يعطله عن رسالته فى هداية البشر وإنقاذهم من الضلال!

يا سادة، المريض العقلى ليس مكانه الشارع، ويجب ألا يُترك بدون علاج هائماً على وجهه فى البرية، لم تعد شماعة الجن والعفاريت والأعمال.. إلخ التى نريح بها أنفسنا من عناء علاجه، لم تعد تنفع، بل أصبحت خطراً رهيباً.
نقلا عن الوطن