القمص يوحنا نصيف
    قد يظنّ البعض أنّ عصر الاستشهاد قد انتهى، لكن في الواقع أنّ الحبّ الصادق للمسيح في كلّ جيل يجعل الإنسان مستعدًّا لبذل كلّ شيء من أجله..

    سأذكر في هذا المقال مثالَين لوقائع معاصرة، تكشف عن الاستشهاد'>روح الاستشهاد التي يتحلّى بها مَن يُحبّون الله بكلّ قلوبهم..

    المثال الأوّل: يروي لنا أحد الآباء المعاصرين الذين عاشوا داخل أسوار البلاد الشيوعية، التي كانت لا تؤمن بوجود الله وتحارب أولادَه بعنف:
    قابلتُ أثناء وجودي في السجون الشيوعيّة مؤمنين حقيقيّين مثقَّلةً أرجلهم بسلاسل حديدية يزيد وزنها على خمسة وعشرين كيلوجرامًا، مُعَذَّبين بأسياخ حديدية محمّاه بالنار، مرغَمِين على ابتلاع كميات من الملح دون أن يُقَدَّم لهم الماء فيما بعد، جياعًا، مجلودين.. ومتألمين من البرد.. ولكن في ذات الوقت كانوا يُصلّون بحرارة من أجل معذِّبيهم الشيوعيين. هذا ما لا يمكن للعقل البشري أن يفسرّه. فهو محبة المسيح التي انسكبت في قلوبنا بالروح القدس (رو5: 5).
    تَعَرَّضنا لجوعٍ شديدٍ فقد كان كلّ ما نأكله هو كِسرة خبز كلّ أسبوع.. فكُنّا مطروحين أشبه بالهياكل العظمية. وتاه مِنّا عقلنا لدرجة لم نستطع معها التركيز في أيّ شيء، فكانت الصلاة الربانية أطول مما نستطيع إكمالها. فلم نتمكن من تركيز أذهاننا بشكلٍ يساعدنا على ترديدها. ولكن صلاتنا الوحيدة التي كنّا نُكرِّر ذِكرها كانت: "أحبّك يا يسوع".

    المثال الثاني: في فجر 3 سبتمبر عام 1981م فوجئ الشعب المصريّ بالقبض على بعض الشخصيات السياسية والدينية المشهورة، والتحفُّظ عليهم في مكان غير معلوم.. وكان من ضِمن المقبوض عليهم 7 أساقفة و24 كاهنًا.. وقد عُومِلوا معاملة خشنة للغاية في الشهر الأول من السجن حتى مقتل الرئيس السادات، حيث كانوا يقيمون في زنزانات صغيرة ضيقة، كلّ اثنين في زنزانة.. ولكنّ صلواتهم لم تتوقف أبدًا، وكان إيمانهم أنّ الله سيسند كنيسته، ويعبر بها هذه المحنة بسلام..
    كانت السلطات قد أعدّت لكلّ واحد منهم قضية خطيرة، من وحي الخيال، حتى يستطيعوا أن يُنزِلوا بهم أقصى عقاب. ولكنّ الله بدَّد مشورة الأشرار، وأبطل كلّ مؤامراتهم، فخرج الآباء من السجن بعد ذلك على دُفعات، واعتذر لهم المسؤولون وردُّوا لهم كرامتهم..

    قبل الخروج من السجن، كانوا يستدعونهم بالترتيب ليُحَقِّقوا معهم.. وفي إحدى المرّات كان الدور على أحد الآباء الأساقفة، فنادوا على اسمه ليجهِّز نفسه، ويسافر من سجن وادي النطرون إلى القاهرة لإجراء التحقيق..

    في خروجه وضعوا في يديه الأطواق الحديديّة، كما يُفعَل مع كافّة المسجونين عند نقلهم من مكان لمكان.. وإذ كان الجندي المكلَّف بالحراسة عنيفًا، فقد أطبَقَ بالقيود بشِدّة على يديّ الأسقف حتى كاد يُفتِّت عظامه.. فما كان من الأسقف إلاّ أنّه انحنى على القيود وقبّلها بصمتٍ، شاكرًا الله الذي سمح له أن يشترك معه في صليبه، ويعطيه هذه الفرصة المباركة أن يتألّم معه، فيتمجّد أيضًا معه..!

    هذا المنظر العجيب ترك أثرًا لا يُمحَى في كلّ مَن رآه، لأنّه كشف كيف يكون حُبّ المسيح متفوِّقًا على كلّ الآلام والظلم..!

    نذكر هذه الوقائع الآن، لنقيس أنفسنا عليها.. فنحن محتاجون أن نشحن القلب باستمرار بمحبة المسيح بالصلاة، حتى نكفّ عن التذمُّر، ونصير تلاميذ حقيقيّين للمسيح.. حاملين الاستشهاد'>روح الاستشهاد، مفتخرين بالصليب في فرح وشكر، متمسّكين بالطريق الضيّق بكلّ قيوده المحبوبة..!!
    كل عام وأنتم بخير وسلام،،
القمص يوحنا نصيف