عادل نعمان
تواعدنا على لقاء فى المقال السابق، لنستكمل معا ماهية الأحكام ومقاصد التشريع الذى لا يمكن فهمه أو سبر أغواره وأسراره إلا بمعرفة سبب التنزيل، وكذلك العلم بالأحداث والقضايا والوقائع ومكان ووقت النزول وأحوال وظروف الناس (لأن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب «ابن تيمية»)، وكذلك الحكمة والقصد والمقصود من هذا الحكم: هل هو حكم عام أو خاص؟ ومن الخطأ الدارج أن الكثير من فقهاء الأمة يقرون بقاعدة عموم اللفظ «وتعنى هذه القاعدة أن الحكم الشرعى إذا ورد بسبب واقعة معينة بذاتها حدثت فى عصر التنزيل، فإن الحكم لا يكون مقصورا على تلك الواقعة فحسب، وإنما يكون حكما عاما فى كل ما شابهها من وقائع ونوازل، وذلك لأن أحكام القرآن أحكام عامة لكل زمان ومكان وليست خاصة، حتى لو كانت الواقعة محددة بذاتها».. وهو أمر يحتاج إلى مراجعة وتصحيح، فحين يكون الحكم خاصًا بنساء النبى «فى آية الحجاب مثلا» «وإذا سألتموهن (أى نساء النبى) متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب، ذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن»، فهو حكم خاص بنساء النبى فقط ليس غير «خصوصية الحكم»، ولا ينسحب على غيرهن، ليس لأفضلية نساء النبى على كل النساء، لكن لخصوصيتهن وإبعادهن عن مواطن الشبهات والقيل والقال، فكان الحكم لهذا السبب منفردا وخاصا بهن وليس لعموم نساء المسلمين حفاظا على بيت النبوة.. وهكذا الكثير من الإحكام.
ونود أن نناقش هذا الأمر من خلال حكم القوامة (وأعنى قوامة الرجل على المرأة)، وهو القائم عليها بالرعاية والحماية والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت «كما جاء فى أغلب التفاسير» والآية هى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله).
وسبب نزول هذه الآية أن حبيبة، زوجة سعد بن الربيع، نشزت عليه فلطمها، فانطلق أبوها معها يشكوه إلى رسول الله، فقال له الرسول: (ليس له ذلك ولتقتص من زوجها) تلطمه كما لطمها، فانصرفا لتقتص منه، إلا أن جبريل أتى الرسول وأنزل «الرجال قوامون على النساء» إلى آخر الآية، فلحق الناس بهما وقال لهما الرسول «أردنا أمرًا وأراد الله أمرًا آخر» ورفع القصاص.
وهناك فارق كبير بين الحكم كتشريع، وبين وصف الحالة القائمة التى عليها الرجل والمرأة.. التشريع سارٍ ومطلق ويقرر أمرًا أزليًا، أما الوصف فهو صورة لحالة عند وقت محدد، وليست القوامة ممتدة ومستمرة استمرار حياة الناس، بل حالة متغيرة يومًا وراء الآخر، وليس اصطفاء صنف أو جنس على صنف أو جنس آخر ثابت وقائم دون تعديل أو تغيير، وليس قدرًا أبديا وأزليا بين البشر، فهذا مخالف لسنة التغيير والتبديل، وهى سنة الله فى خلقه، بل طبيعة الحياة أن تتغير أحوال الناس ودرجاتهم، فما كان فى الصدارة اليوم يتوارى غدا، امرأة كانت أو رجلا، ويصبح التشريع المطلق هذا متناقضًا ومتخاصمًا مع سنن الحياة ومتغيرات الزمن وأصول المنافسة والارتقاء.
ولما قرر الرسول لها القصاص «أى تلطمه كما لطمها»، كان هذا متوافقا مع مبدأ العدل المنشود المراد تحقيقه، إلا أن التنزيل جاء على عكس المراد، تماشيا مع النهج والشكل والوصف الاجتماعى والغلبة السائدة، وكذلك المقبول من كل الأطراف فى حينه، ومخالفته استفزاز ومضايقة ومخاصمة سلطة الرجل وهو عماد الدعوة، وهو أمر مؤقت، وليس من المعقول استمراره لأن حركة الحياة وأحوال الناس لا تثبت ولا تقف عند وقت نزول النص، لا تخرج ولا تحيد عنه، بل تتحرك وتتجاوزه وتتخطاه وتعبره، وهو فى هذا يخضع لقوانين الطبيعة وحركة الحياة، وعلى النص أن يتجاوب بالتأويل أو إعادة الفهم مع تنامى هذه القوانين وحركة صعودها.
والقوامة فى تعريفها السابق كما استقر عليها الفقهاء قديما لا يقبلها الناس ولا تتوافق مع متغيرات العصر، ويصبح مفهومها الآن القدرة على إدارة شؤون الأسرة وتدبير النفقات وتربية الأولاد وتعليمهم.. ولما كانت هذه المهمة ثقيلة على طرف دون الآخر، وعبئًا يصعب على أحدهما القيام به منفردا، فضلا عن نجاح المرأة وتفوقها العلمى واكتسابها الكثير من المهارات والقدرات، ما يجعلها والرجل طرفين متساويين، فإن القوامة تصبح مشاركة وتواصلا وتفاهما، بل من المهم مشاركة الأبناء فى تلك القوامة وتدريبهم على اتخاذ القرارات، وهو أمر قائم الآن.
«الدولة المدنية هى الحل»
نقلا عن المصرى اليوم