فاطمة ناعوت
رجل فقيرٌ دخل البقالةَ مع طفلته ذات الخمس سنوات، واختلس رغيفًا من الخبز، وهمَّ بالخروج خلسةً. انتبه البائعُ واستوقفه. ارتعبَ الرجلُ وتصبّب عرقًا خجلا من ابنته؛ بعدما افتضح أمرُ سرقته أمامها. الطفلة تسألُ أباها فى براءه عمّا يجرى. ولا يدرى الأبُ بماذا يجيب! فإذا بالبائع يجيبُها: (لا شىء يا ابنتى. لقد نسى والدك بعض المال بقية الحساب!) وأعطاه بعضَ المال.
ولم يصدقِ الأبُ ما يحدث. فإذا بالبائع الآخر يبتسمُ للأب قائلا: (ونسيتَ كيس الأرز كذلك) وناوله كيسًا ضخمًا من الأرز. كانت ما سبق أحداث فيلم إيرانى قصير جدًّا (دقيقة واحدة) عنوانه «الخبز» وفاز بعدة جوائز فى مهرجانات دولية عديدة. البائعان لم يسامحا الرجلَ وحسب، بل أنقذا طفولةَ طفلة لئلا تنهدم فى عينيها صورةُ الأبِ الفارس.
تلك معضلة «العدل»، و«الرحمة». لو سرقت أُمٌّ فقيرة رغيفًا لطفلها الجائع، هل نضعها فى خانة اللصِّ، أم فى خانة المضطّر النبيل، الذى ضحى لإنقاذ روح بريئة من الهلاك؟ لن نحددَ أبدا إجابةً واحدة (نقيّة).
لأن الشقّين موجودان كلاهما فى هذا السلوك! الضِعةُ والعُلوّ. وكيف يجتمعُ نقيضان فى سلوك واحد؟ ألا يهدمُ هذا أحدَ مبدأ «عدم التناقض» الأرسطى، القائل إن الشىء الواحد لا تجتمع فيه صفتان متناقضتان فى آن؟ وكذلك مبدأ «الثالث المرفوع»، أو الوسط الممتنع، القائل إن لا قيمةَ وسطى بين الصدق والكذب، فكلُّ قضية إما صادقةٌ، وإما كاذبة؟!.
ستواجهنا تلك الإشكاليةُ كثيرًا فى كل ما يتعرض «للإنسانيات» فى تعقيداتها الكبرى. انتبه الفنانون والشعراء والروائيون والمسرحيون خصوصًا إلى تلك المفارقة فصنعوا أعمالا خالدة. الطفلُ الجائعُ الذى سرق رغيفًا، استلهمها «فيكتور هيجو» فى رواية «البؤساء» قائلاً فى مقدمتها: «تخلق العاداتُ والقوانينُ فى فرنسا ظرفًا اجتماعيًّا هو نوع من الجحيم البشرى، فطالما وجد فقرٌ ولا مبالاة، فإن كتبًا كهذا الكتاب ستكون دائمًا ضرورة».
انتقدت روايتُه الظلمَ الاجتماعى والفقر واللامبالاة فى فرنسا أوائل القرن التاسع عشر، بسبب حروب التناحر على السلطة. وتعاطف القارئُ، مع «جان فالجان»، الطفل الجائع، الذى دخل السجن ١٩ عامًا لسرقته رغيفًا، ليخرج منه مجرمًا حقيقيًّا، لولا لقائه بالراهب الطيب الذى آواه فى بيته وأطعمه وأكرمه. لكن «فالجان» غافله وسرق شمعدانه الفضى. وبعد القبض عليه برّأه القسُّ من تهمة السرقة لكى يُنجيه من السجن مجددًا.
بفضل نبل القسّ وحكمته، تحول اللصُّ الآثمُ إلى رجلٍ نبيل يظلُّ يساعد الفقراء حتى وفاته. لكن الفكرة هنا أن القارئ تعاطف مع فالجان «الطفل السارق»، حتى قبل أن يتحول فى كهولته إلى رجل كريم. يعنى تعاطفنا معه «لصًّا»!.
تلك الإشكالية الدرامية استلهمتها التراجيدياتُ الإغريقية قبل خمسة وعشرين قرنًا. خطايا الأبطال الخُطاة. «سوفوكليس» فى مسرحية «أنتيجونا»، يطرح مأساة الفتاة التى حاولت دفن جثمان أخيها، فيما أراد «كريون» أن تنهش جسدَه الجوارحُ لأنه خان الوطن.
قال «هيجل» عن هذه المسرحية إن سوفوكليس وضعنا أمام مذنبَيْن. أذنبت «أنتيجونا» فى حق الوطن، وأذنب «كريون» فى حق رابطة الدم. كذلك أوقعنا النرويجى «هنريك إبسن» فى تلك الأزمة الوجودية فى «بيت الدمية». «نورا»، صاحبة أشهر صفقة باب عرفها التاريخ. حيّرتِ النقادَ والقراءَ معًا.
وصفها البعضُ بالجسارة والقوة حين تركت كلَّ شىء وراءها رافضةً أن تظلَّ «دُمية» جميلةً فى يد رجل. واختارت أن تكون كائنًا حرًّا وإنسانًا مسؤولاً. واعتبر هؤلاء تلك المسرحيةَ أول صرخة نسوية فى التاريخ الأدبى تنادى بتحرر المرأة من الاستعباد. وفى المقابل رآها البعضُ امرأة مهزوزة مهلهلة الشخصية خسيسة احتالت على القانون بتزوير توقيع والدها للحصول على المال لتنقذ زوجها من مرضه الخطير.
ويُشفى زوجُها بفضلها. لكن الشرير «كروجشتاد» يهددها بإفشاء سرها إن لم تقنع زوجها، مدير البنك، بالرجوع عن قرار فصله. ويعلم الزوجُ بفعلة الزوجة فيقرر طلاقها «خوفًا على سمعته». وحين يستوثق من زوال الخطر باختفاء دليل إدانتها، يحاول استرضاءها. لكن «نورا» بعد صدمتها فى زوجها تهجر البيت وتصفق وراءها الباب صفقة هزّت أركان الدنيا. هل نعاقبها أم نسامحها على سرقة والدها لإنقاذ زوجها من الموت؟ تلك إشكالية العدل والرحمة.
ولم يقل التاريخُ كلمته النهائية. ولن يقول. محكمةُ «الضمير الإنسانى والرحمة» تُبرّئ الأمَ السارقة رغيفًا، وتبرّئ جان فالجان وأنتيجونا وبرومثيوس ونورا، لكن محكمةَ «العدالة والقانون» تجرّمهم جميعًا، وتضعهم فى سلّة واحدة مع اللصوص وعُتاة المجرمين!. قد يكمن الخطأُ مع الصواب فى أمرٍ واحد، فنحارُ بين العدل والرحمة. وكلاهما صفةٌ أصيلة من صفات الله تعالى. وتلك محنةُ الإنسان.
نقلا عن المصري اليوم